رسائل إلى الحاضر حول إدارة التعدد والتنوع الديني والإثني

  • 9/15/2018
  • 00:00
  • 1
  • 0
  • 0
news-picture

جاء إعلان الأمير فيصل بن الحسين عن تأسيس الحكومة العربية بدمشق في 5/10/1918 1916، بعد أن كان «الاستقلال العربي» قد أعلن في المدينة في 30/9/1918 بعد خروج العثمانيين منها، ليمثل طموح جيل إلى دولة عربية مستقلة تتسع لكل المكونات الموجودة فيها عبر التاريخ. ففي بلاغ تأسيس الحكومة العربية ورد أنها «تأسّست على قاعدة العدالة والمساواة وتنظر إلى جميع الناطقين بالضاد على اختلاف مذاهبهم وأديانهم نظراً واحداً لا تفرّق في الحقوق بين المسلم والمسيحي والموسوي». وفي اليوم التالي جاء عند الأمير فيصل رؤساء الطوائف المسيحية وحاخام اليهود لمبايعته مع مراعاة الشروط السبعة التي وافق عليها الأمير: «طاعة الله، احترام الأديان، الحكم شورى على مقتضى القوانين والنظامات التي تسنّ لذلك، المساواة في الحقوق، توطيد الأمن، تعميم المعارف وإسناد الوظائف إلى أكفائها». وقد أكّد الأمير فيصل على ذلك بعد أيام (11/10/1918) خلال زيارته إلى مدينة حلب المعروفة بتنوّع سكانها على أن أعمال الحكومة العربية «تدل على أن لا أديان ولا مذاهب (لها) فنحن عرب قبل موسى ومحمد وعيسى». وقد تمثل موقف الحكومة العربية في الشهور الأولى من خلال الجريدة الرسمية (العاصمة) في التوسّع بمفهوم الدين (الذي لم يعد ينحصر بدين الغالبية) ليشمل كل الأديان الموجودة «لأنّ الأديان كلها ما جاءت إلا لإصلاح البشر». كما تمثلت سياسة الحكومة في التركيز على جمع كل المكوّنات الدينية والإثنية في بوتقة «حب الوطن» المشترك من خلال التعليم، وذلك مع تأسيس ديوان المعارف في تشرين الثاني 1918 وإنشاء المدارس المختلفة (الثانوية والزراعية والعسكرية ودور المعلمين) وتأسيس نواة الجامعة السورية (كلية الحقوق وكلية الطب) خلال 1919. وفي هذا السياق خصّصت «العاصمة» في 28/4/1919 مقالها الافتتاحي لـ «حب الوطن». ففي هذا المقال ينطلق الكاتب قبلان الرياشي من أن «حب الوطن هو الذي انتصر به الغرب على الشرق بل هو الجامعة الكبرى التي تضم إلى المملكة الواحدة ما ينضوي تحت لوائها من العناصر والأجناس المتعددة»، ويربط التخلف الذي لحق بالبلاد إلى الجهل وينتهي إلى مناشدة أبناء البلاد «أن ينبذوا أسباب التعصب والشحناء... ويساعدوا الحكومة على إنشاء تربية جديدة وطنية لأن الاستقلال لا يقوم بالمال والرجال بل أن أقوى دعامة له هي حب الوطن وتبادل هذا الحب بين أفراد الأمة على السواء». ومع التزام الأمير فيصل بشروط المبايعة له من رؤساء الطوائف المسيحية وحاخام اليهود بـ «الشروط السبعة»، ومنها «المساواة في الحقوق وإسناد الوظائف إلى أكفائها»، يلاحظ أن الأمير فيصل كان منفتحاً على كل الطوائف ومقدراً للكفاءات، ولذلك نجد أنه حينما التقى في درعا الصحفي الفلسطيني المعروف عيسى العيسى دعاه إلى القدوم إلى دمشق وعيّنه كاتب البلاط، كما أن القس الماروني د. حبيب إسطفان الذي اشتهر بعروبته وملكته الخطابية آثر أن يخلع الثوب الكهنوتي ويعمل مستشاراً للأمير فيصل، واستدعى الأمير فيصل الماجور جبرائيل حداد من فلسطين ليكلّفه بتنظيم الشرطة في دمشق. وفي هذا السياق نجد أن الحكومة خلال 1919-1920 كانت تضم على الدوام عضوين أو وزيرين من المسيحيين. ومع قرار عصبة الأمم بإرسال لجنة للتحقق من رغبات السكان في بلاد الشام في أيار 1919 توجه الأمير فيصل في حزيران 1919 إلى حلب ليخاطب الشعب، مركزاً على موضوع الوحدة الوطنية، ومتعهداً بأن تعمل الحكومة القادمة على حماية حقوق الأقليات. ومع أنه انطلق من مقدمة عاطفية قال فيها «نعلم أنه فينا من هو في الأقلية ومن هو في الأكثرية بالنظر إلى المذهب... أما أنا فأقول لا أكثرية ولا أقلية لدينا ولا شيء يفرق بيننا، إننا جسم واحد، ولا شك أن أعمال الحكومة الموقتة تدل على أن لا أديان ولا مذاهب» إلا أنه انتهى إلى ما هو قادم: «إن الحكومة التي ستؤسس بمساعدة من أخذ بناصرنا من الأمم المتمدنة ستعمل بجميع ما هو واجب لتأييد حقوق الأقلية، وسنقطع على ذلك العهود بالصحائف، وأنا واثق أن هذه الصحائف التي تكتب لحفظ حقوق الأقلية ستأتي الأقلية فتمزقها بيدها، لأنها سترى أن الأكثرية عاملة بما سطرته وفوق ما سطرته» (22). وفي هذا السياق جرت دعوة السوريين لانتخاب مندوبيهم إلى «المؤتمر السوري» الذي افتتح في مطلع حزيران 1919، وكان المسيحيون يتمثلون فيه بأكثر من عددهم في البلاد. وقد تمخضت المناقشات عن مجموعة من القرارات المهمة، ومن ذلك استقلال سوريا والمطالبة بحكومة نيابية لها صفة اللامركزية مع الأخذ بالاعتبار حقوق الأقليات وتأمين المساواة بين المواطنين الخ. ومع تحول «المؤتمر السوري» إلى جمعية تأسيسية بدأ الإعداد للقانون الأساسي/ الدستور باعتباره المرجعية العليا التي تضبط إدارة التنوع والتعدد وتحميه بقوة القانون حين الحاجة. وبالاستناد إلى ذلك حمّل الأمير فيصل المؤتمر السوري مسؤولية كبيرة: «أن دولتنا الجديدة التي قام أساسها على وطنية أبنائها الكرام هي في حاجة اليوم إلى تقرير شكلها، أولاً ووضع دستور لها يعيّن لكل منا– آمراً ومأموراً- حقوقه ووظائفه في حياتنا المستقلة». وفي اليوم التالي الموافق 7/3/1920 اجتمع المؤتمر وانتهى إلى عدة قرارات «بإجماع الرأي» على رأسها «استقلال بلادنا السورية بحدودها الطبيعية استقلالاً تاماً لا شائبة فيه، مبنياً على الأساس المدني النيابي وحفظ حق الأقلية»، «على أن تقوم حكومة ملكية مدنية مسؤولة تجاه مجلس الأمة، وعلى أن تدار مقاطعاتها على طريقة اللامركزية الإدارية»، و «مسؤولية الحكومة الجديدة تجاه الأمة». وفي صباح اليوم التالي تم في احتفال كبير بمبنى البلدية في ساحة الحجاز إعلان الاستقلال ومبايعة الأمير فيصل ملكاً دستورياً على «المملكة السورية العربية» وسط حضور يمثل نجاح الحكومة في إدارة التنوع والتعدد الديني/ الإثني خلال 1918- 1920. وعلى الرغم من المحاولات الفرنسية لاستقطاب المسيحيين في شكل عام والموارنة في شكل خاص، فقد كان من الملاحظ أن بطريريك أنطاكية وسائر المشرق للروم الأرثوذكس غريغوريوس حداد كان أول من تقدم لمبايعة الملك فيصل من الرؤساء الدينيين الحاضرين. وفي هذه المناسبة قدّم رؤساء كل الطوائف المسيحية الثمانية وحاخام اليهود صكاً إلى الملك فيصل ورد فيه «لما كان قد وقع اختيار الأمة السورية على تمليك سمو الأمير... نبايعه ملكاً على هذه البلاد متعهدين بالطاعة والإخلاص لجلالته والمعاونة لحكومته بكل ما تصل إليه القدرة» (31). وتجدر الإشارة إلى أن صك المبايعة تضمن الشروط السبعة التي قبل بها الأمير فيصل في المبايعة الأولى له على رأس الحكومة العربية في 6 تشرين الأول 1918، والتي تضمنت «المساواة في الحقوق وإسناد المناصب والوظائف إلى أكفائها». وفي هذا السياق قام الملك فيصل في اليوم الثاني بتكليف رضا الركابي بتشكيل وزارة جديدة تمثل فيها المسيحيون بشخصيتين معروفتين: فارس الخوري للمالية ويوسف الحكيم للتجارة والزراعة والنافعة (32). وكانت الخطوة الثانية المهمة تشكيل لجنة لوضع القانون الأساسي/ الدستور برئاسة هاشم الأتاسي، التي استفادت من أحدث الدساتير الأوروبية لتضع بعد عشرة أسابيع مشروع القانون الأساسي/ الدستور المكون من 148 مادة، الذي يمكن اعتباره أفضل دستور في الشرق الأوسط آنذاك لجهة حماية التنوع والتعدد الديني والإثني. ويلفت النظر في مشروع القانون الأساسي/ الدستور، الذي بدأ المؤتمر السوري في مناقشة وإقرار بنوده خلال شهري أيار وحزيران 1920، ما ورد في البند الأول من الفصل الأول (في المصالح العامة) أن «حكومة المملكة السورية العربية حكومة ملكية مدنية نيابية، ودين ملكها الإسلام»، أي أنه اختار الدولة المدنية واختزل العلاقة بين الدين والدولة بدين الملك. كما نصّ القانون الأساسي في الفصل الثالث (حقوق الأفراد والجماعات) على أنه «لا يجوز التعرض لحرية المعتقدات والديانات ولا منع الحفلات الدينية لطائفة من الطوائف»، في الوقت الذي ركّز فيه على «أن يكون أساس التعليم والتربية في المدارس الرسمية والخصوصية واحداً على أساس المبادئ الوطنية في جميع المقاطعات السورية». وفي الواقع لقد أخذ القانون الأساسي بتقسيم المملكة إلى مقاطعات (لا تقل مساحة الواحدة عن 25 ألف كم ولا يقل سكانها عن نصف مليون نسمة) لمراعاة التنوع والتعدد في أطراف المملكة، حيث نصّ على أن «المقاطعات تُدار على طريقة اللامركزية في إدارتها الداخلية» و «لكل مقاطعة مجلس نيابي يسنّ قوانينها ونظمها المحلية وفقاً لحاجاتها ويراقب أعمال حكومتها». وفي هذا السياق حرص الدستور على تمثيل الأقليات الصغيرة التي يُخشى ألا تحصل على ما يكفي من الأصوات في المجالس النيابية للمقاطعات (نائب واحد عن كل أربعين ألف)، ولذلك نصّ في الفصل الحادي عشر (في المقاطعات) على تعيين عدد من النواب للأقليات في المجالس النيابية للمقاطعات (نائب واحد لكل 15 ألف نسمة). ومن ناحية أخرى أخذ الدستور بالواقع العشائري في بعض أنحاء المملكة فنصّ في الفصل الثاني عشر (في مواد شتى) على أن يقوم المؤتمر بسن قانون «يبيّن فيه كيفية إدارة العشائر وحلّ الاختلافات التي تحدث بينهم». وعلى الرغم من الظروف الصعبة التي كانت تمر فيها البلاد مع التهديدات الفرنسية للسيطرة على سوريا، فقد تابع «المؤتمر السوري» عمله بحماس لإقرار مواد هذا القانون الأساسي/ الدستور خلال أيار- تموز1920، حيث تم إقرار 23 مادة من أصل 148. ويلاحظ هنا أن المؤتمر بدأ بإقرار مواد القانون الأساسي/ الدستور في شكل معكوس إذ بدأ بنقاش وإقرار المواد التي تتعلق معظمها بحقوق الأقليات (من 122 إلى 150) على حين أن المادة الأولى والأهم التي أرست النظام النيابي المدني لم تقر إلا في جلسة 12 تموز (33). وللأسف إن تجربة الحكومة العربية في إدارة التنوع والتعدد وصولاً إلى القانون الأساسي لعام 1920، الذي يمكن اعتباره أفضل دستور في الشرق الأوسط آنذاك من حيث تركيزه على نظام الحكم المدني النيابي ونظام اللامركزية وتخصيص كوتا للأقليات، لم يتح لها الاستمرار بفعل التدخل العسكري الخارجي في صيف 1920، وفرض نظام الانتداب الفرنسي الذي حمل معه سياسة مختلفة تماماً في هذا المجال تقوم على تقسيم المقسّم على أسس طائفية (دولة بغالبية مسيحية في لبنان، دولة للعلويين، دولة للدروز الخ).

مشاركة :