اليابان من وجهة نظر عربية: شمولية الذكاء وتجاربنا الحياتية

  • 9/15/2018
  • 00:00
  • 12
  • 0
  • 0
news-picture

لقد كان الاختلاف سببا مهمًّا للخلاف في تاريخ البشرية، فالاختلاف في لون البشرة أدى إلى التفرقة العرقية، واختلاف الرأي الديني والمذهبي أدى إلى الخلافات الطائفية، والاختلاف العقائدي أدى إلى الخلافات العقائدية، والاختلاف القومي أدى إلى الخلافات القومية. وعاشت المجتمعات البشرية هذه الخلافات في الغرب والشرق، ودفعت شعوبها ثمنا غاليا بالعبودية والاستعمار والنازية، والحروب الدينية والطائفية، بالإضافة إلى حروب القرن العشرين المدمرة. وبدأت بعض دول العالم تعي خطورة الخلاف، فطورت ديمقراطيتها وأنشأت برلماناتها، لكي تعالج اختلافاتها في اروقتها، ووحدت جهودها أيضا لمحاولة حل خلافاتها الدولية في الأمم المتحدة. وبدأ الشعب الأمريكي مؤخرا يعي خطورة الخلاف بعد فشل حرب العراق، وقد علق الكاتب الأمريكي كليد بريسوتز يقول: «أمريكا ليست واعية اليوم، وبسعادة، إنه في المستقبل القريب لن يكون من الحكمة التفكير بأهداف قوتها، وذلك لأنه لن يكون هناك أي قوة لتحتاج إليها أهداف. نعم ستكون هناك مظاهر قوة، فستبقى القوات الأمريكية في اليابان وكوريا، وسيتجول الأسطول السابع في غرب الباسيفيك، وسيستمر تسعير النفط بالدولار، ولكن قوتها الحقيقية ستتبخر. وقد أزالت الصين الولايات المتحدة كأكبر سوق عالمية، وأخذت مواقعها في العديد من الصناعات الرئيسية... ويزيد النقص في الميزانية الأمريكية على 7% من الإنتاج الإجمالي المحلي، وتزداد الديون التي تستلفها إلى حوالي ألف مليار دولار سنويا. وخلال العشر السنوات القادمة ستتساوى التزامات ديونها مع الإنتاج الإجمالي المحلي السنوي. كما يعتمد الاقتصاد الأمريكي كلية على الديون المستمرة التي يستلفها». وقد بدأت الإدارة الأمريكية مؤخرا بالحوار المباشر مع كوريا الشمالية لمنع المجابهة في الخلاف النووي الخطير، وتبذل جهودا جادة لمنع انتشار السلاح النووي في منطقة الشرق الأوسط. فتصور عزيزي القارئ كيف تستنزف الخلافات اقتصاديات الدول العظمى، وكيف سيكون مستقبل دولنا حينما تبتلى بطاعون الخلافات وبالأخص الدينية منها والطائفية. وقد أعجبني مقال للصحفي الأمريكي وليام بابف يحلم بحكمة الذكاء في التعامل مع الخلاف في مقال بجريدة اليابان تايمز يقول: «لنتخيل أن العلاقات الإيرانية الأمريكية أخذت منحى آخر بعد الثورة الإيرانية. ولنحلم حينما حوصرت السفارة الأمريكية في طهران في بداية الثمانينيات، حملت واشنطن مسؤولية الخطف الحكومة الإيرانية بمخالفتها القوانين الدولية، وأعلنت رسميا الحرب على طهران، ثم حجزت الإيرانيين الموجودين في بلادها، وطلبت من الصليب الدولي العمل لتبادل الأسرى. ولنفترض بعدها، تعترف الحكومة الأمريكية بحكومة طهران الجديدة... وتحل خلافاتها المعلقة من خلال محكمة العدل الدولية. لتكون قد تجنبت الحكومة الأمريكية المعضلة النووية الإيراني. ولما حدثت الحرب العراقية الإيرانية ولا الغزو الأمريكي للعراق، (ولما دمرت العراق وقوتها، ولربما تجنبنا خراب الربيع العربي). ولنتصور أن الصداقة الأمريكية الإيرانية رجعت، بسيطرة المعتدلين، فسنستغرب النتائج الايجابية المرافقة لحكمة التصرف». فتصور عزيزي القارئ لو تعاملنا بخلافاتنا العربية المحلية والإقليمية والدولية في القرن الماضي بهذه الحكمة، فكيف سيكون حالنا اليوم؟ ولننتقل إلى اليابان لنلاحظ كيف استفادت من حكمة تجربة دمار الحرب العالمية الثانية للوقاية من الخلاف؛ فمثلا نلاحظ المواطن الياباني يزور معبد الشنتو حينما يحتفل بولادة طفله، ويزور الكنيسة حينما يحتفل بزواج ابنته، ويزور معبد بوذا حينما يفقد عزيزا. وتستغرب من تناغم الفرد الياباني مع ثلاثة من الأديان والعديد من المذاهب المختلفة، وهناك أكثر من مائة وستين معبدا، وثلاثين ألف كنيسة في اليابان، ويصل عدد زوار بعض هذه المعابد إلى أكثر من سبعة ملايين زائر سنويا. وترجع عقيدة الشنتو إلى أكثر من ستة وعشرين قرنا، وحينما انتشرت البوذية مع الحضارة الصينية في القرن السادس تقبلها الشعب الياباني بتناغم جميل، كما تقبلوا حضارة الصين واستفادوا منها، كما آمنوا بمقولة بوذا، الذي يعتبره البعض رسولا من أهل الكتاب: «لا تؤمنوا بشيء، لا يهم من أين تقرأوه، ولا من قاله، ولو سمعتموه مني، إلا إذا كان يتفق مع منطق العقل والفطرة البشرية». والسلوك اليومي للفرد الياباني ملتزم بأدب التواصل واحترام الآخرين، وحب الغير والعمل كفريق واحد، وكره الفردية وصدق المعاملة، والتفاني في العمل وإتقانه. فالياباني لا يتكلم عن الدين ولا يهتم كثيرا بطقوس الدين، ولا يفرق بين مذهب وآخر، بينما يمارس الأخلاقيات الدينية بانضباط. والسؤال المحير: ما السر في أن بعض الأشخاص يتقبلون، بل يحترمون اختلاف غيرهم، ويحاولون أن يتفهموا ويتعلموا من هذا الاختلاف، ويستفيدوا من ايجابياته، كما يقدرونه كثقافة جديدة تغني ثقافة الأم؟ وهل هذا السر خبرة مكتسبة أم ميزة موروثة؟ وقد درس العلماء ظاهرة سر تعامل البعض مع الاختلاف بتناغم جميل. ومن خيرة العلماء الذين بحثوا في هذا المجال طوني بوزان؛ فقد درس سلوك الذهن البشري وطريقة تفكيره وأساليب تطويره، كما استطاع أن يطور نظرية الخريطة الذهنية، ويتعرف من خلالها على كيفية التقاط الذهن للمعلومات وتحليلها وتوجيهها وربطها بالسلوك الإنساني وقراراته. وقد جمع بوزان دراساته وأبحاثه في كتاب بعنوان: الذكاء الروحي من خلال معرفة الحياة وموقعنا فيها. ويعرف الذكاء الروحي بأنه اختيار الإنسان بين الأنا الذاتية الجسمية والأنا العليا الروحية التي تتفهم الحياة بواقعها المادي وحقائقها غير الملموسة. ووصف ظواهر للذكاء الروحي منها التعرف على النفس من خلال الأنا العليا، وبتفهم الحياة بقانون مسبباتها وتأثير تلك المسببات، أي أن الشخص مسؤول عن حياته وتفكيره وعقائده، ولا يستطيع أن يلوم الآخرين لما يعيشه. وبأن الإنسان غير مرتبط بالضرورة بنتائج أعماله، أي حينما يؤدي الإنسان عمله بكفاءة، يجب أن يكون مستعدا لتحمل النتائج غير الإيجابية أيضا. وتستعمل أدوات مختلفة لتطوير الذكاء الروحي كالتأمل والتبصر، والعبادة، بالإضافة إلى وعينا بالخوف والغضب والتمرين المستمر لنتفهم بما في أفكارنا وعواطفنا وسلوكنا. ويؤكد العلماء ضرورة أن تكون نظرتنا إلى الذكاء شاملة، أي تبدأ من أسفل هرم الذكاء والمرحلة البدائية منه وهو الذكاء الجسمي، وهو وعينا بمهارة استخدامنا للجسم والمحافظة عليه. والدرجة الثانية في هذا الهرم الذكاء الذهني، وهو درجة دقة إمكاننا في حل معضلات المنطق الكلامية والرياضية. والدرجة الثالثة هي الذكاء العاطفي المتعلق بالسيطرة على عواطفنا في تعاملاتنا، والذكاء الاجتماعي المسؤول عن لطف تعاملنا مع الآخرين. وأعلى درجات الهرم من الذكاء هو الذكاء الروحي وهو حكمة الأنا العليا الموجهة بالرحمة والتوازن بين الطمأنينة والأمان الداخلي والخارجي. ويعتقد العلماء أن الإنسان يحتاج إلى درجة معينة من الذكاء الجسمي والذهني والعاطفي والاجتماعي ليستطيع أن يطور حكمة ذكائه الروحي. وتبدأ هذه الرحلة بمعرفة النفس والإحساس بكيفية التعاطف مع معضلات الآخرين، ويتداخل بعدها الذكاء الروحي والذكاء العاطفي لتطوير بعضهما بعضا. ويشمل الذكاء الروحي الوعي ببواطن النفس والسيطرة عليها، والوعي والإحساس بمشاكل الآخرين، والوعي بالروحانية وتوجيهها بشكل سليم، والسيطرة الاجتماعية على النزوات. ويعقب بوزون فيقول: «إذا كان الذكاء الذهني يتعلق بالتفكير، والذكاء العاطفي بالعواطف، فإن حكمة الذكاء الروحي تتعلق بالسؤال عمن نكون، وبدور بصيرة الروح والرحمة في حياتنا وعملنا كأشخاص». وقد اكتشف العلماء ذبذبات عصبية بدرجة 40 هرتز على سطح المخ البشري، ويعتقد بعلاقتها بالوعي والعمليات المرتبطة بحكمة الذكاء الروحي. ويحدد العلماء خواص الذكاء الروحي بالحكمة وتشمل العلم بمحدودية المعرفة، والصفات المرافقة، كالشجاعة والنزاهة وسرعة البصيرة والرحمة وحب الآخرين. وتبرز حكمة الذكاء الروحي في التعامل مع الحياة والعمل بشمولية، من خلال الإبداع والتعبير عنه بأشكال مختلفة من الفن، كما أن سرعة بصيرة الإدراك هي جزء من ذكاء اللاوعي وتكملة التفكير المنطقي وإصدار القرارات. وكلما نكون رحيمين بأنفسنا نكون أكثر رحمة بالآخرين، وتتبين الرحمة بالنفس من خلال حبنا لعملنا، واهتمامنا ببدننا وصحتنا، وبالأكل الصحي والرياضة، وتغذية أرواحنا بعلاقات حميمة، والعيش في بيئة آمنة وغير ملوثة، والتسامح مع أنفسنا حينما نخطئ. وتبين النظرة الشمولية للحياة أننا كائنات بجسم وذهن ونفس وروح، مترابطة ومرتبة بحيث إن شموليتها تزيد على جميع أجزائها. ومن الضرورة مراعاة الشمولية في التربية، ليتعلم الطفل خلق توازن بين أنواع الذكاء المختلفة، كما أن صحة الجسم مع التئام الروح ينبعان من مصدر مشترك، فلصحة الجسم نحتاج إلى المعلومة والمهارة لنحافظ على أجسامنا، ولصحة الروح نحتاج إلى التئام أرواحنا بالحب والرحمة والتسامح، كما نحتاج إلى حكمة الذكاء الروحي في كل لحظة من حياتنا اليومية لخلق التوازن بين الواقعية والمثالية مع مراعاة قيمنا وأخلاقياتنا المجتمعية والدينية. ويبقى السؤال لعزيزي القارئ: هل سيهتم التعليم في وطننا العربي بتطوير مفهوم الذكاء الشامل؟ وهل سيمزج الذكاء بأنواعه المختلفة في معضلات خلافية، يناقشها الطلبة ليتعلموا من خلالها طرق التعامل مع تحديات الخلاف المجتمعية وكيفية الوقاية منها؟ وهل من الممكن أن نتصور نوعية الجيل الذي سينتجه هذا التعليم، إذا ترافق مع تطوير المهارات العلمية والتكنولوجية في الألفية الثالثة؟

مشاركة :