أعادت لي زميلة عزيزة وصحافية بارعة تصريحا عرضيا للصحافي والناشط العمالي الأميركي جون سوينتون (1829 -1901)، يتم تداوله كلما بدت الحاجة إلى القول إن فكرة الصحافة المستقلة أقرب إلى الوهم. لم تكن حاجة الزميلة تأكيد هذه الفكرة لي، بينما هي مهرت الصحافة تحت وطأة ظروفها الصعبة والسائدة، بقدر ما كانت تتعاطف مع أفكاري التي تراها أحيانا “مندفعة” من أجل استقلالية الصحافة. تتم الاستعانة بكلام الصحافي الأميركي والناشط العمالي جون سوينتون، في اقتباس يشكك بشكل نهائي في استقلالية الصحافة واعتبارها مجرد أداة بيد الرجال الأغنياء والحكومات، لكن مثل هذا الاقتباس على أهميته يتم التعامل معه أيضا بشكل عرضي عندما ينظر إلى تحدي الصحافة للحكومات والعمل من أجل منع الفساد والاستحواذ على السلطة. لطالما تم تداول كلام سوينتون في الإعلام الأميركي بخلاف يفتقد إلى العمق، لأنه لم يكن يعول على ما قاله كثيرا وبقي التعامل مع القطعة القصيرة التي قالها في نادي الصحافة بنيويورك عام 1880 بطريقة عرضية، من أجل فكرة واحدة تحول دون أن يدب الوهن لدى الصحافي في إيصال المعلومة ونشر الحقيقة بأي طريقة متاحة. أتذكر في سنتنا الجامعية الأولى كانت الأستاذة ليز ستيفنسون ترشدنا بحماس إلى كتاب “قوة من دون مسؤولية” لجيمس كوران وجين سيتون، من أجل التعرف على الحقيقة الكامنة في تاريخ الصحافة البريطانية لاستلهام العبر، بقي هذا الكتاب مصدرا مثيرا وعندما أشار أحد الطلاب الأذكياء في القسم “يبدو لي كان من أصول أميركية” إلى كلام جون سوينتون، أثار ما يشبه الصدمة لمزيد من النقاش بشأن حرية الصحافة. براعة الأستاذة استطاعت امتصاص كل ذلك بين أكثر من مئة طالب يجتمعون من أقسام الصحافة والراديو والتصميم والقانون، يدرسون منهجا مشتركا بينهم يسمى “قواعد الثقافة” وقالت علينا ألا نعول كثيرا على كلام سوينتون “من دون أن تشكك في صحته” من أجل ألا نحبط بذرة الصحافي فيكم ولا نتهاون في البحث عن الحقيقة. كانت تريد أن تقول إن الاستقلالية يصنعها الصحافي لنفسه، من دون أن يفرط في القيم ويبدي تنازلات لمصلحة أنانية. كلام قديم عن استقلالية الصحافة مهما يكن من أمر، يتفق أغلب المؤرخين الإعلاميين أن جون سوينتون قال كلامه المشكك في استقلالية الصحافة الأميركية التي كفلها الدستور، لكنهم يختلفون على أهمية ذلك الكلام، وكيف أسيء استخدام الاقتباس، كلما بدت الحاجة ماسة وعاجلة إلى اتهام الصحافة بعدم الاستقلالية. يجزم سوينتون أنه لا يوجد في تاريخ العالم والولايات المتحدة ما يعرف بالصحافة المستقلة، ويخاطب الآخر الذي كان بالضرورة صحافيا بقوله “أنت تعرف ذلك وأنا أعلم ذلك” لأن كل الإشارات إلى الاقتباس تقول إن سوينتون قال كلامه في لقاء بنادي الصحافة في نيويورك، وليس هناك ما يؤكد أنه نشر مثل هذا الكلام في مقال. لكن لماذا لا يتم التعويل كثيرا على الاقتباس؟ هذا يفسر لنا التعامل العرضي معه أكاديميا وإعلاميا عندما تتم استعادته! يخاطب جون سوينتون الصحافيين بقوله: لا يوجد أحد منكم يجرؤ على كتابة آرائه النزيهة، وإذا فعلت ذلك، فأنت تعرف مسبقا أنه لن ينشر أبدا في الصحيفة التي تعمل فيها. ويبسّط الأمر بطريقة أنانية بالقول “أتقاضى أجرا أسبوعيا للحفاظ على عدم كتابة رأيي الصادق في الصحيفة التي أعمل فيها. وتدفع إلى آخرين منكم رواتب مماثلة لأشياء مشابهة، وأي واحد منكم سيكون أحمق لدرجة أن يكتب آراء صادقة، لأنه سيتجول في الشوارع في اليوم اللاحق بحثا عن وظيفة أخرى”. ليصل جازما بالقول “إذا سمحت لوجهة نظري الصادقة بالظهور في قضية واحدة بما أكتبه بالصحيفة، فسوف تنتهي مهنتي قبل أربع وعشرين ساعة”. يغالي سوينتون باتهامه الصحافيين باعتبارهم مصدر تدمير الحقيقة، أنهم وفق تعبيره: الخاضعون والمستلقون على بطونهم، مصدر الانحراف والتشويه من أجل خبزهم اليومي، هكذا يتساءل: فأي جنون بعدها يدفعنا للتصديق بوجود صحافة مستقلة؟ تأمل كلام الرجل المحسوب بجدارة على الصحافيين انطلق من أميركا الديمقراطية آنذاك وليس من ألمانيا النازية! ويعترف في النهاية بقوله “نحن الصحافيين أدوات وتوابع الرجال الأغنياء الذين يديرون وسائل الإعلام وراء الكواليس. نحن دمى تقفز وترقص عندما يحرك الممولون الخيوط، مواهبنا وإمكانياتنا وحياتنا كلها ملك الآخر، نحن عاهرات فكر”! جون سوينتون: لا يوجد صحافي يجرؤ على كتابة آرائه النزيهة، وإذا فعل ذلك، فهو يعرف مسبقا أنه لن ينشر أبدا في الصحيفة التي يعمل فيها جون سوينتون: لا يوجد صحافي يجرؤ على كتابة آرائه النزيهة، وإذا فعل ذلك، فهو يعرف مسبقا أنه لن ينشر أبدا في الصحيفة التي يعمل فيها هناك سيرة صحافية لسوينتون تثير الالتباس لكونها مرتبطة أيضا بتركه العمل الصحافي ليكون ناشطا في الدفاع عن حقوق العمال وخطيبا مفوها، فهل قال مثل هذا الكلام المثير أثناء عمله في نيويورك تايمز، أم أثناء إصداره صحيفة عمالية أسبوعية، أفلست لاحقا لأنه رفض الحصول على أي دعم لاستمرارها، أم أثناء كونه ناشطا عماليا متطرفا في الولايات المتحدة، لأن الحماس حيال هذا الكلام بشأن أهمية الصحافة يدعو إلى هذا التساؤل. قوة الصحافة مهما يكن من أمر، يثير الاقتباس مسألة ما إذا كانت هناك حقيقة مستمرة في تصريحات سوينتون بشأن استقلالية الصحافية، وما إذا كان بعض الصحافيين الصادقين قد لا يكونون قادرين على قول أشياء مشابهة. “لدينا أمثلة مثيرة اليوم عن قوة الصحافة تجسدها افتتاحية بوسطن غلوب ومقال نيويورك تايمز عن الرئيس دونالد ترامب”. لا يمكن لأي شخص يرتبط ارتباطا وثيقا مع الصحافيين أن يغفل جزءا من الحقيقة في ما قاله سوينتون بطريقة منفعلة وإن كانت معبرة، مثل هذا الكلام أعاد قوله راسل بيكر المراسل السابق لصحيفة نيويورك تايمز في البيت الأبيض بعد أكثر من مئة عام بقوله “لا يوجد صحافيون يغطّون البيت الأبيض، بل يوجد صحافيون يغطيهم البيت الأبيض”. لكن أين تكمن الحقيقة بغض النظر عن اقتباسات جون سوينتون التي مر عليها أكثر من قرن، عاشت فيها الصحافة مراحل القمع والمصادرة والخضوع والتحدي وتقديم خدمات مدفوعة الثمن وشاركت انتفاضات الشعوب كما تواطأت مع الحكومات بإخفاء الحقيقة. علينا في كل الأحوال النظر إلى المنتج الحقيقي للصحافيين عندما يتعلق الأمر بالفساد وإساءة استخدام السلطة. ولا نكتفي بنشر اقتباس سوينتون، كي نسوغ لمن يريد أن تكون الصحافة بلا ضوابط لتتنازل عن حساسيتها. لا أحد يتجاهل ضغوط السلطة على الصحافة لكسرها أو على الأقل دفعها إلى الانحناء وتقديم فروض الولاء، لكن لا يمكن أيضا تجاهل تحدي الصحافة للسلطة ومقاومة ضغوطها لمنع كسرها. على الصحافة الاستفادة من دروس تطور عالم الأعمال وتقديم نماذج مختلفة، من دون أن تفقد قيمها أو حريتها، لكن إذا أدارت وسائل الإعلام ظهرها للمجتمع من أجل أنانية تجارية أو سياسية، والاكتفاء بفكرة ليس ثمة ما يمكن أن نتعلمه ونعمله، فإنها فقط ستكون معبرة بحق عن كلام سوينتون. لقد لعب ألان روسبريدجر، رئيس تحرير صحيفة الغارديان السابق، على مفارقة في دلالة الكلمات باللغة الإنكليزية في كتابه الجديد الذي نشرت مقتطفات منه قبل أن يصدر، عندما حول جملة خبر عاجل إلى كسر الأخبار Breaking News. ومن أجل منع كسر الأخبار يرى روسبريدجر، من المهم بالنسبة لنا كصحافيين أن نكون قادرين على تحديد وإعلان قيمنا وأهدافنا واستقلالنا. لذلك ينصح بأن يكون الدفاع النهائي عن الصحافة هو في جعلها منفعة عامة. مع أن الصحافيين أنفسهم غالبا ما يختلفون على طريقة قياس أو تقدير الصالح العام، لأن القيم السوقية هي التي أصبحت تتحكم في حياتنا كما لم يحدث من قبل.
مشاركة :