ليست هي المرّة الأولى التي أقولها ولن تكون الأخيرة: هناك من الكتب ما يُقرأ هرولة ومنها ما يُقرأ مزمزة. ومن هذا النوع الأخير كتاب الأديب والمترجم والفيلسوف العراقي فاضل عباس هادي. وهو حلقة في سلسلة من النصوص والحكم والخواطر والاستشهادات التي سجلها صاحبها للتعبير عن شغفه بالثقافة الفرنسية وما يدور في فلكها. وأجمل ما في الكتاب أنه مشاكس، إذ لا يطيب للكاتب مغازلة باريس من دون الغمز من قناة لندن التي أقام فيها ويعرفها مثل باطن كفّه، ومن قناة أدبائها ومفكريها.وهو إذ يغرف من جمالات الفكر والفن الفرنسيين، فذلك لأنه متبحّر في لغته الأم وآداب العرب. يأتيك بالمفردة الحرون وقد روّضها وقلّم مخالبها. وهو في مقارناته الكثيرة يشبه نزيلاً يستأجر غرفة لدى سيدة جميلة ومهذبة وست بيت. مع هذا، فإنه كلما صعد إلى غرفته أو نزل منها، طرق على باب السيدة وقال لها: «السيدة التي في الجوار ألطف منك». كيف احتملك الإنجليز يا فاضل عباس هادي؟تتقلب صفحات الكتاب وتتكوّم المتعة. هناك انتقاء أنيق ومقصود من جنائن الأدب الفرنسي. ولكل زهرة شوكة ذكية؛ إذ لا يذكر هذا إلا للمقارنة مع ذاك. يكتب: «اللغة الفرنسية هي لغة (الأفندية) والإنجليزية لغة (السيبندية)». ويقول موضحاً إن «السيبندي باللهجة العراقية شخص فظ وغليظ وغير مهذب، على عكس الأفندي، الرجل الكيّس والمهذب حسن الهندام والسلوك، رجل مذواق». ثم يضيف: «الإنجليزية هي لغة الصخور المتحرجة، لغة التنافر بين المفردات، معنى ومبنى، لغة المطرقة والسندان لا لغة الكمان». وللمؤلف رأي في جيمس جويس، الشاعر والكاتب الآيرلندي صاحب «عوليس». فهو يراه يكتب بلغة أنظف وأجمل من جميع الكتاب الإنجليز. لكنه لا يتفق مع جويس الذي يدعو القارئ إلى أن يقرأ كتاباته بصوت عال ليتمتع بها بشكل أفضل، وسيكتشف الموسيقى فيها. ثم يقرر هادي: «من المؤسف أن قراءة جويس بصوت عال يزيد من حدتها ونشازها فتبدو كبناء أخرق مكوّن من طابوق متعدد الأضلع والنتوءات، لغة الكدمات والطسّات...»... أغلق أقواس التنصيص لأقول إن هذا رأي «يفجخ»، أي يشجّ الرأس.لكن هناك آراء في منتهى اللماحية والعذوبة، منها وقفة المؤلف عند نادلات المقاهي وصفاتهن وعاداتهن ما بين هذا البلد وذاك. أو حديث الجدّات لدى هذا الكاتب أو ذاك، وغيرها من ملاحظات تبدو خفيفة وهي عميقة، تحرك لدى القارئ حسّ البحث فيما وراء السطور. إنه مسافر جوّاب آفاق. يخبرنا من خلال تجربته أن من الأفضل أن تعيش في مدينة تحبها. وما يراودك فيها من أحلام سيكون جميلاً جمال المدينة، ويحدث أن تزورك الحسناوات. «وفي المدينة التي أنت مجبر على العيش فيها بسبب الظروف القاهرة، تغشيك أثناء النوم الكوابيس المخيفة».لو كنت وزيرة للثقافة في فرنسا لأوصيت بمنح الجنسية لفاضل عباس هادي. يكفي أن يقرأ المستشارون كتاباته ليعينوه سفيراً لفولتير في اليونيسكو. وهو بهذا يذكرني بصديقتي التونسية دليلة التي جاءت للدراسة في باريس ونسيت نفسها فيها، مثلنا كلنا. سألها موظف الداخلية عن سبب طلبها للجنسية الفرنسية، وما الذي يمنعها من العودة إلى بلادها. ردت عليه: «أنا لم أسع وراءكم بل أنتم من سعى ورائي. دخل إيلوار ورامبو وأراغون إلى صفوف الدراسة في مدرستي واعتقلوني. ولما حاولت الهرب منهم جاءت تعزيزات من سارتر ودو بوفوار وكامو وساغان وقيدوا لساني. هل ذنبي أن ثقافتي تتبع بلادكم وأنكم استعمرتموني؟».
مشاركة :