سليمان جودة جاء يوم أرسل فيه الخليفة الراشد الثاني عمر بن الخطاب، رسالة إلى أبي موسى الأشعري، الذي كان قاضياً على البصرة.. ورغم أنها رسالة قصيرة لا تكاد تملأ صفحة واحدة في كتاب من القطع الصغير، إلا أنها لا تزال توصف بأنها أهم رسالة من حاكم لقاضٍ في عصر عمر، وفي كل عصر لاحق!. تقول الرسالة في سطر واحد من سطورها المضيئة: فإن الحق لقديم، وإن الرجوع إلى الحق خير من التمادي في الباطل! ولا توجد دولة تنطبق هذه العبارة على موقف من مواقفها هذه الأيام، سوى الباراجواي في أمريكا الجنوبية، التي قررت إعادة سفارتها من القدس إلى تل أبيب، بعد أن كانت قد نقلتها في مايو الماضي، ضمن ما يشبه الهوجة في ذلك الوقت! وكان الرئيس الأمريكي دونالد ترامب قد قرر في ديسمبر، الاعتراف بالمدينة عاصمةً ل«إسرائيل»، دون أن يعبأ بأن لدى كل فلسطيني يقيناً في أن القدس هي عاصمة الدولة الفلسطينية حين تقوم. وحين جاء شهر مايو، كانت «إسرائيل» تحتفل في ١٥ منه بذكرى قيامها عام ١٩٤٨، كما تفعل في كل عام، وقد أراد الرئيس الأمريكي أن يشاركها الاحتفال فيما يبدو، فقرر نقل سفارة بلاده من تل أبيب إلى القدس، وأرسل ابنته، وزوجها جاريد كوشنر، الذي يعمل مستشاراً له في البيت الأبيض، ومعهما وزير خزانته، لحضور احتفال نقل السفارة! ولم تشأ إدارة ترامب أن تكتفي بنقل سفارتها هي وحدها، فراحت تحرض دولاً أخرى على اتخاذ الخطوة نفسها، ومن حسن الحظ أن دولتين اثنتين هما فقط اللتان استجابتا لتحريض واشنطن، هما جواتيمالا والباراجواي.. ولا دولة ثالثة معهما سوى أمريكا طبعاً! وإذا كان قرار الولايات المتحدة مفهوماً، بحكم انحيازها الذي لا يتوقف إلى «إسرائيل»، وإذا كان ترامب قد اتخذ قراراً لم يجرؤ رئيس أمريكي سابق على اتخاذه، منذ الرئيس هاري ترومان الذي قامت الدولة «الإسرائيلية» في عهده، إلا أن قرار الباراجواي لم يكن مفهوماً بأي معيار، ولا كذلك جواتيمالا، إذ ليس من الظاهر أن هناك مصالح مستقرة بين هاتين الدولتين وبين تل أبيب، من نوع المصالح القائمة والممتدة بين واشنطن وبين «إسرائيل»!. وقد كان الخوف وقتها أن يؤدي قرار الدولتين، إلى إغراء دول أخرى باتخاذ القرار نفسه، وهو ما لم يحدث لحسن الحظ أيضاً.. فبقيت السفارتان وحيدتين بخلاف السفارة الأمريكية، إلى أن جاء هذا الشهر، فقررت حكومة الباراجواي دون مقدمات، إعادة سفارتها إلى حيث كانت في تل أبيب، لأن الخطوة في تقديرها تؤسس للسلام في المنطقة، فقامت القيامة في«إسرائيل»، ولا تزال، وقرر رئيس الوزراء «الإسرائيلي» بنيامين نتنياهو، في المقابل، سحب سفير بلاده من هناك وإغلاق السفارة! وكان قرار ماريو عبده، رئيس الباراجواي الجديد الذي يعود إلى أصول لبنانية، أقرب إلى الرجوع للحق، منه للتمادي في الباطل!.. ففي المرات الثلاث التي جرى فيها عرض قضية القدس على الأمم المتحدة في نيويورك، سواء على مستوى مجلس الأمن، أو على مستوى الجمعية العامة، كانت الغالبية من دول العالم تنحاز دون تردد، إلى الحق الفلسطيني الواضح في القدس!. وكان من الطبيعي أن يرد الرئيس الفلسطيني محمود عباس، التحية «الباراجوية» بأحسن منها، فقرر فتح سفارة لفلسطين في الباراجواي على الفور، حسبما أعلن رياض المالكي، وزير الخارجية الفلسطيني لوسائل الإعلام، ولم تنفع الضغوط الأمريكية القوية في تراجع الرئيس عبدو، فأعلنت واشنطن أن مايك بنس، نائب الرئيس الأمريكي، طلب من ماريو العودة عن القرار، لولا أن الأخير صمد ولايزال أمام ضغوط لايعلم أحد، إلى أي مدى يمكن أن تذهب مع حكومته!.. والأمل كله في أن يتمسك وأن يواصل الصمود!. إن الميزة في صمود حكومة الباراجواي، أنه يمكن أن يغري حكومة جواتيمالا، باتخاذ قرار مماثل يعيد سفارتها هي الأخرى إلى تل أبيب، وعندها، سوف تبقى سفارة الولايات المتحدة وحيدة في مكانها، وسوف تتردد أي دولة في العالم في السير وراء قرار ترامب. soliman.gouda@gmail.com
مشاركة :