بداية لابد من الإشارة إلى أن حالة التخلف والتأخر الذي تعيشه المجتمعات العربية يعود إلى عدة قرون سابقة على الوجود الاستعماري الغربي، وهو كامن في طبيعة البنى الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والثقافية المتخلفة السائدة، غير أن ذلك لا يلغي مسؤولية الغرب التاريخية عن نظام السيطرة الاستعمارية (الكولونيالية) والهيمنة الامبريالية على مقدرات وثروات الشعوب العربية، والتصدي لإجهاض المشاريع الوطنية التحررية، خصوصاً إبان الحرب الباردة والمواجهة مع الاتحاد السوفيتي وحركات الاستقلال والتحرر الوطني في المنطقة، كما تمثل في دعم الغرب والولايات المتحدة الأمريكية على وجه الخصوص لإقامة إسرائيل وسط العالم العربي على حساب وجود الشعب الفلسطيني والحقوق العربية المشروعة. لكن هل يكفي أن ننظر إلى نصف الكأس الفارغ لنعرف ماهية الغرب، فالغرب ليس كتلة هلامية صماء فشعوب الغرب هي شعوب حية ومتحضرة، ويمتلك الرأي العام ومنظمات المجتمع المدني هناك قوة مؤثرة تستطيع إسقاط رؤساء دول وحكومات، والمعروف بأن وسائل الإعلام الغربية والأمريكية هي من سربت وقائع الانتهاكات التي حدثت في سجون جوانتانامو وأبوغريب والبصرة، وسلطت الضوء عليها، كما أن هناك حركات جماهيرية ومدنية واسعة في الغرب ضد سياسات حكوماتها ومتضامنة مع كفاح الشعوب وضحايا الاضطهاد في العالم، وعلينا أن لا ننسى بأن الحضارة الغربية عموماً أضافت إلى البشرية منجزات حضارية تمثل ذروة ما وصلت إليه الإنسانية على امتداد تاريخها الطويل.. فالمنجزات العلمية والصناعية والتكنولوجية والثقافية وبلورة مبادئ الدولة الحديثة (الدولة/ الأمة) ومفاهيم حقوق الإنسان وقيم الحرية والمساواة والعدالة والديمقراطية والمجتمع المدني والتي تمثل بمجموعها جوهر ومحتوى الحضارة الكونية المعاصرة تعود في نشأتها إلى الغرب. والسؤال المركزي هنا: ما هو دور وموقف العرب من الحضارة المعاصرة بغض النظر عن كل مثالبها ومساوئها والتي تنتقد بقسوة من داخل الدائرة الحضارية الغربية نفسها؟.. وهل على العرب أن يكتفوا بالاستقالة من التاريخ والزمن الذي يصنعه الفاعلون؟.. ليس أمام العرب من خيار سوى التفاعل مع العصر من خلال استنهاض مشروع نهضوي جديد يحفز مكامن القوة لديهم ويتجاوز إخفاقات المشروع النهضوي المجهض، وتتحدد مقوماته في كسر أغلال التبعية للخارج، والتمحور الاقتصادي على الذات على صعيد التنمية الشاملة، إلى جانب ترسيخ قيم العقلانية والعلم والحرية والحداثة والتعددية، واحترام الآخر، والانفتاح على الثقافة والحضارة العالمية على أساس التكافؤ والندية، وبما يحافظ على الخصائص الدينية والحضارية والثقافية، ويستجيب للمصالح الوطنية والقومية للشعوب العربية. كتب الفيلسوف الألماني فيخته: «إن من فقد استقلاله فقد بالتالي إمكانية التأثير في مرور الزمن وتحديد محتواه بكل حرية لأن من فقد استقلاله يتطور هو والزمن الذي يعيش فيه تحت ضغط قوة خارجية وهذه القوة هي التي تقرر له قدره وبدءاً من تلك اللحظة ليس للإنسان الفاقد استقلاله أي مفهوم عن الزمن».
مشاركة :