قصة ديبلوماسي أميركي تحكي لنا كيف كانت ليبيا وكيف أصبحت

  • 9/20/2018
  • 00:00
  • 6
  • 0
  • 0
news-picture

في صباح أحد أيام الأسبوع الأول من شهر أيار (مايو) 2008 وبينما كان القذافي مجتمعا برئيس وزرائه البغدادي المحمودي في خيمته بمعسكر باب العزيزية، دخل أحد الحراس الشخصيين للقذافي وأعطاه ورقة صغيرة كانت تقول إن «عبدالله السنوسي يريد مقابلتك لأمر هام جدا على انفراد». وعند وصول مدير المخابرات الليبية وقت النظام الجماهيري، وزوج أخت صفية فركاش الزوجة الثانية للعقيد معمر القذافي واليد اليمنى له عبدالله السنوسي لباب الخيمة، طلب القذافي من رئيس وزرائه البغدادي مغادرة المكان، وجلس السنوسي بدلا منه، فسأله القذافي ماذا بك يا سنوسي؟ فتحدث السنوسي عن رصد الأجهزة الأمنية لاتصالات من مدينة جادو (شمال غرب ليبيا) بالسفارة الأميركية في طرابلس، وأن المتحدث من جادو كان يشتكي للسفارة الأميركية من سوء معاملة النظام الليبي للأمازيغ ومنعهم من التحدث بلغتهم وقمع تراثهم ومضايقتهم. وبعد أن أنهى السنوسي حكيه للقذافي عن تلك المكالمات، طلب القذافي من مدير مكتبه أحمد رمضان بإعداد زيارة له لمدينة جادو، ودعوة كل أعيان وقيادات الأمازيغ في جبل نفوسة لحضور ذلك الاجتماع الكبير، حتى أن أبلغ الأمازيغي سعيد حفيانة يوم 15 مايو 2008 أعيان الامازيغ بنالوت وبكاباو بمجيء القذافي ليجتمع معهم. وفي يوم 17 مايو 2008 وصل العقيد معمر القذافي لمدينة جادو وتحدث للأمازيغ، وقال لهم إنتم عرب أقحاح وأصولكم من شبه الجزيرة العربية، وهاجرتم إلى ليبيا قبل الإسلام بمئات السنين، واستشهد بكتاب «حول عروبة البربر: مدخل إلى عروبة الأمازيغيين من خلال اللسان» للباحث العماني سعيد بن عبدالله الدارودي، والذي اهتم ببرهنة عروبة البربر (الأمازيغ) من خلال اللسان، وهو الكتاب الذي شرح فيه الباحث العماني التشابه بين لهجة الأمازيغ باللهجات القديمة الظفارية والقحطانية في جنوب شبه الجزيرة العربية، بعد أن وضع قاموساً مقارناً بين مفردات البربرية (الأمازيغية) واللغة العربية، في أربعة فصول شكّلت القسم الأكبر من الكتاب الذي يحوى 346 صفحة. وفي تلك الأثناء كانت السفارة الأميركية في طرابلس ترسل تقاريرها إلى واشنطن حول عزمها التحرك ولقاء قيادات الأمازيغ في عاصمتهم غير الرسمية مدينة زوارة (تقع على شاطئ البحر الأبيض المتوسط وتبعد عن العاصمة طرابلس حوالى 120 كم غرباً وتبعد نحو 60 كم عن حدود تونس) وكذلك المتواجدين في مدن الأمازيغ في جبل نفوسة أو الجبل الغربي (أقصى شمال غرب ليبيا). حتى تحدث نائب السفير الأميركي جون كريستوفر ستيفنز (وهو الشخص الذي عمل بعد ذلك سفيرا للولايات المتحدة في ليبيا منذ مايو 2012 حتى وفاته على يد مجموعة إرهابية في بنغازي بتاريخ 11 سبتمبر 2012) صراحة مع مدير الدائرة الأميركية بالخارجية الليبية أحمد عياد وقال له إنه يرغب في لقاء عدد من قيادات الأمازيغ في زوارة، ومن بينهم أمين المؤتمر الشعبي في المدينة حول التراث الأمازيغي وتقاليد الأقليات في ليبيا، وكان رد أحمد عياد أن ليبيا لا يوجد بها أمازيغ وكل الليبيين عرب، واعتبر عياد أن هذا التصرف تدخل في الشؤون الداخلية وانتهاك للسيادة الليبية، وسأل عياد موجها سؤاله لستيفنز، هل تسمحون لسفارتنا في واشنطن بالتحدث للأقليات في أميركا من السود والهنود الحمر والتشيكانو؟ وطبعا كان الصمت الذي يصل لدرجة الخرس هو إجابة ستيفنز على أحمد عياد. وفي بداية حزيران (يونيو) 2008 أوقفت سيارة مدنية موكب نائب السفير الأميركي كريستوفر ستيفنز في طريق المطار (طرابلس) وخرج منها شخصان وطلبوا الأوراق الرسمية للديبلوماسيين الأميركان وتصاريح الإقامة، وعندما سأل نائب السفير عن هويتهم، قالوا له نحن تابعين للأمن الخارجي، وطلبوا منه أن يرافقوه إلى المطار. وفي مكتب الأمن الخارجي بالمطار جلس نائب السفير ومعه ضابطي اتصال بالسفارة، وكان أمامه مدير المكتب واطلع على أوراقهم وتصاريحهم، وقال إنه سيتأكد بنفسه من صحة الأوراق وأجرى اتصالات عدة ثم سألهم عن سبب ذهابهم إلى سبها، ولم ينتظر منهم إجابة حتى قال لهم عودوا إلى سفارتكم ويجب عليكم إبلاغنا المرة القادمة قبل 48 ساعة من الخروج من طرابلس. وفي يوليو 2008 أصدرت الخارجية الليبية بيانا لجميع السفارات الأجنبية بمنع أي ديبلوماسي أجنبي من الخروج من مدينة طرابلس الكبرى، ومحددة بدائرة قطرها 70 كيلو متر، وبذلك الشهر جلس في مأدبة عشاء في أحد المطاعم بطرابلس ديبلوماسي أميركي بصحبه ديبلوماسي مصري وآخر تونسي، وتحدث الأميركي عن إجراءات الخارجية الليبية ومنعهم من الخروج من طرابلس بغضب وانفعال شديد، حتى سأله الديبلوماسي التونسي وماذا ستفعلون؟ فأجاب الأميركي نحن سنلتزم بالقرار، فضحك الديبلوماسيان المصري والتونسي وقالوا نحن نذهب إلى أي مكان في ليبيا ولا يوقفنا أحد. وحينها أدرك الأميركي أن قرار الخارجية الليبية المقصود منه هو وحده دون غيره، وأن الأمن الليبي على علم بكل ما كان يدور بين السفارة الأميركية في طرابلس وبعض القيادات الأمازيغية، والأخطر هو ما كان يحضر له الأميركي في المستقبل القريب عبر هؤلاء. وفي أواخر يوليو 2008 أوقفت أجهزة الأمن الليبية ديبلوماسيا أميركيا في الطريق الساحلي قرب صبراتة، وبعد التحقيق معه قال إنه ذهب للالتقاء بقيادات الأمازيغ في زوارة، فتم إعادته إلى طرابلس، بعد أن سحبوا منه كل أوراقه وتسليمها للاستخبارات الليبية، وبعد يومين أرسلت الخارجية الليبية رسالة رسمية بأن الديبلوماسي الأميركي الذي قبض عليه خارج مدينة طرابلس غير مرغوب فيه، وعليه أن يغادر الأراضي الليبية خلال 48 ساعة بسبب خرقه تعليمات السلطات الليبية وتدخله في الشؤون الداخلية للبلاد، كي يعود الديبلوماسي الأميركي لبلاده في أول آب (أغسطس) 2008. وتمر الأيام والشهور والسنين، وتحمل معها مفاجآت قاسية وسيناريوات ومشاهد غير متوقعة، وتضرب ليبيا فوضى عارمة، ويغتال القذافي كي يتم التخلص من الصداع المزمن الذي كان ملازما لأدمغة ساركوزي وبيرلسكوني لسنوات، ويغتال السفير الأميركي كريستوفر ستيفنز على يد صبيان وزيرة خارجية بلاده هيلاري كلينتون، وتصبح ليبيا مرتعا للتنظيمات الإرهابية ومن يدعمها من أجهزة استخبارات دولية. وتتحول ليبيا إلى فراغ أمني وسياسي كبير بعد أن كانت تزعج الفرنسي كثيرا في مستعمراته القديمة بأفريقيا، في ظل الحضور الليبي القوي بأفريقيا بعهد القذافي. وتمر سنوات أخرى كي يأتي يونيو الماضي لمحاولة استعادة ولو جزء من كبرياء الدولة الليبية، عبر تحرير درنة والهلال النفطي. ويا للعجب، وللماضي الذي أحيانا يستدعيه الحاضر لكشف ما بخبايا، فبعد تحرير القوات المسلحة العربية الليبية للهلال النفطي، وقرار القيادة العامة لتسليم موانئ النفط للحكومة المؤقتة والمؤسسة الوطنية للنفط ببنغازي (شرق ليبيا) بدلاً من حكومة الوفاق (بطرابلس)، التي كانت توزع عائدات النفط على التنظيمات الإرهابية، حينها جن جنون حكومة روما بطرابلس المسماة بحكومة الوفاق، حتى خرج مصطفى صنع الله رئيس مجلس إدارة مؤسسة النفط الليبية (طرابلس) يوم 25 يونيو الماضي، بعد ساعات قليلة من إعلان القيادة العامة لتسليم الموانئ النفطية لبنغازي، وصرح قائلا: «لا يوجد أي اختلاف بين القيادة العامة والإرهابي ابراهيم الجضران (من هاجم حقول الهلال النفطي)، وعلى الجيش إعادة الموانئ لمؤسسة النفط في طرابلس». وحينها شعر بعض من في طرابلس بالحرج بسبب تصريحات صنع الله، فلم يمر سوى ساعات قليلة على معركة كبرى بالهلال النفطي، قدم فيها الجيش الليبي شهداء وجرحى وتضحيات كبيرة للمرة الثانية لتحرير الهلال النفطي نفسه، في ظل عدم تحرك طرابلس، وفي الوقت الذي يبارك فيه المجتمع الدولي خطوة الجيش، لم يستطع صنع الله أن يمسك بمشاعره، وفلتت اعصابه تماما، كي يصرح بما صرح به، ولكن لم يكن ذلك لسان صنع الله، بل لسان من يحرك كل عرائس المارونيت بروما. وبعدها أجرى صنع الله كل الاتصالات المحلية والدولية للتدخل وإجبار القيادة العامة على إعادة الموانئ له، حتى سافر صنع الله يوم 3 يوليو الجاري إلى تونس، كي يجتمع مع القائم بالأعمال المؤقت بالسفارة الأميركية لدى ليبيا جوشوا هاريس، وطلب منه صنع الله بتوسل التدخل لإعادة الموانئ النفطية لمؤسسة النفط في طرابلس. ويا لذلك المشهد ويا للتاريخ! أتعلمون من هو جوشوا هاريس؟ إنه الديبلوماسي الأميركي الذي طردته الخارجية الليبية في بداية أغسطس 2008 بعهد القذافي، بسبب تدخله في الشؤون الداخلية للدولة الليبية، كي يقول بعدها لم أتخيل أن يأتي يوم وأرى فيه مسؤولا ليبيا يتوسل إلي للتدخل في شؤون بلاده. فالمدعو مصطفى صنع الله هو ومن على شاكلته من أناس في وطننا العربي، أناس يقولوا منهجم هو الإسلام السياسي وغايتهم أستاذية العالم ودستورهم هو القرآن، ولكن من ينظر لتجارب هؤلاء منذ نشأتهم يدرك أنه لم يكن لهم هدف إلا تدمير أوطاننا، وتسليمها لمن صنعوا هؤلاء. فلم نكن نتخيل يوما أن تدمر أوطاننا بحجة الديموقراطية والعدالة الاجتماعية، ويظهر أناس من وسطنا ومن دمنا ومن بني جلدتنا ويتكلمون بلساننا نفسه، يكفروننا، ويقتلوننا، ويسلمون بلادنا لأعدائنا بأبخس الأثمان. نعم، لم تسقط أوطاننا إلا بفعل هؤلاء الخونة، ولنا في سورية واليمن والعراق وليبيا قصص لا أول لها من آخر. * الباحث والمحلل السياسي بقضايا الشرق الأوسط.

مشاركة :