أمام تغوّل التكنولوجيا وتغلغلها المتواصل في حياتنا، باتت الصرعات المصاحبة لهذا التغوّل تتوالى أيضًا، وبعد صرعة الكتاب الإلكتروني والقارئ الآلي والكتاب المصوّر، هاهو الكتاب الصوتي أو المسموع يطلّ علينا من جديد ليخمش أرواحنا ويهدد نعمة القراءة الكلاسيكية. وبما أن الحديث عن الكتاب الصوتي يجرّنا، من دون وعي، إلى العلاقة البيولوجية والنفسية في طريقة اشتغال الحواس عند الناس، فأنّ الأجيال القديمة من القرّاء، تلك التي تربت على وسائل تواصل مهادنة، ما زالوا يحنّون إلى الراديو وطريقة اشتغاله والطقوس المصاحبة لاستماع الأخبار والموسيقى بواسطته. أقصد تلك الطريقة التي تتطلب منّا استخدام حاسّة واحدة هي السمع لتلقي المتعة والمعلومات، بينما تكون بقية الحواس متحررة وصالحة للاستخدام في وظائف أخرى، كاستخدام اليدين في عمل السلاطة أو مدّ البصر بعيدا لتأمّل الأفق المفتوح وغيرها من النشاطات. وباستثناء الموسيقى، ظل مفهوم المتعة في حالة الراديو محصورا في بعض التمثيليات الدرامية الإذاعية التي يجتهد مخرجوها من أجل سدّ نقص المرئي باستخدام المؤثرات الصوتية الأخرى إلى جانب أصوات الممثلين، لكن أن يتجاوز الأمر في مفهوم المتعة إلى دخول عالم الأدب صوتيا في عصر يعتمد كليًّا على الصورة والموجودات الفيزيائية، يعدّ مغامرة أو صرعة من نوع ما، يسوقها هؤلاء الذين ما فتئوا يصرون على إحداث تغيير ما في خلق الله! لقد اضطررت إلى الجلوس أكثر من ساعتين في سيّارتي وأنا في طريقي إلى العاصمة لاهاي للاستماع إلى إحدى رواياتي التي حُولت إلكترونيًا إلى كتاب مسموع، ولم استطع في الواقع التعايش معها نفسيًا على الرغم من الجهد المبذول في محاولة تمثيل الحوارات بأصوات نسائية ورجالية وإضافة بعض التأثيرات الصوتية الأخرى، كالموسيقى الخافتة وبعض حفيف السعف وأصوات الطيور، لكنّها مع ذلك ظلت غريبة عنِّي ولم أستطع الدخول في أجوائها كما يحدث الأمر في حالة القراءة. وبما أنّني من محبي التقنيات الحديثة، وسبق أن تقبّلت بحذر كائنا خرافيّا آخر اسمه “الكتاب الإلكتروني” واستمتعتُ به إلى حدّ ما، لاسيّما بعد وضعه في جهاز القارئ الآلي وتقليب صفحاته وفق ما يشبه محاكاة واقعية للكتاب الحقيقي، فقد كنت على الأرجح مستعدّا للخطوة التالية: الكتاب مسموع، أو هكذا تخيّلت. لكن اتضح لي لاحقًا بأنّ الأمر أصبح أكثر تعقيدًا وتطرفًا بالنسبة للسلوكيات المحافظة جدًّا في عالم الكتب، وما زال يواجَه بتحفظ أكثر حتّى من الناشرين. ولعل البعض يقارن تقنية الكتاب المسموع اليوم بالقصص المثيرة التي كانت تُسرد لنا على لسان الجدّات في ليالي الشتاء الطويلة عندما نتحلق حول المدفأة النفطية أو نتكور في أحضان أمهاتنا، لائذين فيها من الدخول المحتمل للجنّي أو مدّ ذراعه المشعرة من تحت السرير ليخطفنا. لكن حتّى في تلك المقارنة ثمّة تفاوت فيزيائي كبير بين حضور الراوي بشخص الجدّة أمامنا والتطلع إلى ملامحها المتغيرة أثناء السرد وغيابه في حالة الكتاب المسموع. وفي مقال نشرته مؤخرا في صحيفة الغارديان البريطانية، قالت راشيل مالاندر، مديرة الصوت (!) لدى دار نشر هاربر كولينس Harper Collins الشهيرة، أنّه من حيث المبدأ، يتم إنشاء إصدار صوتي لكل كتاب روائي ننشره ورقيًا. وتتحدث مالاندر، التي عملت في إذاعة BBC لمدة عشرين عاما، عن “سياسة صوتية كاملة” تعتمدها الدار، وهي ليست الوحيدة في هذا المسعى على ما يبدو. لكن المحصلة، إنّ طغيان التكنولوجيا في حياتنا المعاصرة رسّخ الكثير من العادات والممارسات الجديدة أو الهجينة التي ينبغي التعايش معها كحلول وسط.
مشاركة :