قال أبو عبدالرحمن: قال الله سبحانه وتعالى عن صاحب يوسف عليه السلام: {وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ} [سورة يوسف/45]؛ أي ذكر ما نسيه من وصية (يوسف) عليه السلام؛ وكان ذكره بعد حين من الزمن؛ وقد بين الإمام (ابن جرير)- رحمه الله تعالى- في تفسيره سورة القمر أن (مدكر) بالدال المهملة على وزن (مفتعل) بمعنى (مذكر) بالذال المعجمة؛ لأن ذلك هو لتقارب المخرج؛ ومثل ذلك أن يجعلوا التاأ ذات الثنتين من فوق بعد الذال المعجمة دالا مهملة مشددة؛ ووجه الترادف أن من أحوال المفكر أن يبلغ الجهد في استذكار ما تصوره؛ ليقرنه بالحاضر الذي يشاهده؛ وليعمل فيه نظره؛ ولهذا الترادف سميت الكراسة (التي تودع فيها معلومات يخشى نسيانها) مفكرة.. هذا شيىء من الشتات اللغوي؛ وأما التمزق الاصطلاحي فهو أكثر شتاتاً، وأعد إن شاء الله بجولة أخرى مع التمزق الاصطلاحي في حال فراغ ونشاط ذهني، وأكتفي ههنا بنموذج من الفلسفة الحديثة، وهو قول (جاك ماريتان): ((إن إحساساتنا وصورنا الخيالية تقدم لنا مباشرة ما هو فردي وجزئي بينما تقدم لنا أفكارنا ما هو كلي)). قال أبو عبدالرحمن: هذا النص من ترجمة (جلال الدين سعيد) في كتابه (معجم المصطلحات والشواهد الفلسفية)؛ فإن صحت الترجمة فكلام هذا الفيلسوف شبيه بكلام السكير الطافح حينما يرى الديك حماراً؛ لأنه جعل ثنائيةً بين الأفكار والإحساسات والصور، ولم يعرف بالفكر نفسه؛ فالفكر اسم للقوة التي نصل بها إذا حصلت رؤية الفكر بالتفكير إلى إدراك صور الأشياء سواأ أكانت متعددةً أم فرديةً، وسواأ أكانت جزئيةً أم كليةً؛ فالصور هي مدركات الفكر من الحس التي هي نتائج التفكير؛ فلا ثنائية بين الفكر ونتائجه؛ فهذا أول خباله الفلسفي؛ وخباله الثاني: أنه جعل الإحساسات والصور شيئين بينما الإحساس نفسه ظاهرياً أو باطنياً هو صورته التي التقطها العقل في ذاكرته بملكة التفكير؛ وخباله الثالث قوله: (صورنا الخيالية) مع أنه محال أن يكون في العقل صورة إلا لما هو موجود بأجزائه في الواقع: إما بالتجريد من عموم أجزائه كالمعاني الموجزة التي نعرف بها معنى (البيت) من صفات جميع البيوت المختلفة التي شاهدناها، وإما بتركيب تخيلناه من أجزاء في الواقع؛ فحصلت صورة لا نملك إثباتها أو نفيها بذلك التركيب في الواقع؛ فلم نشاهد بشراً بآذان حمار كما في الكاريكاتير عن (كافكا)، ولا نملك إحالة وجوده، فالصورة الخيالية صورة من أجزاء الواقع.. وخباله الرابع زعمه أن الإحساسات والصور تقدم لنا مباشرة ما هو جزئي وفردي!!.. بينما الإحساسات التي هي صور في العقل لا تقدم جزئياً ولا فردياً ولا كلياً، بل هي نفسها في وجودها: إما كذا، وإما كذا؛ وإنما تمد أحكام العقل في نظره بفكره بالعلاقات والفوارق بين الأشياإ؛ لتحقيق مبدإ (الهوية) لكل شيىء أدركته عقولنا.. وخباله الخامس أنه جعل الكلي من تقديم الأفكار؛ والواقع أن الكلي والفردي والجزئي كلها من تقديم الأفكار إذا حصلت لها الرؤية، وهكذا الصور الخيالية والإحساسات؛ فهي من تقديم الأفكار بعد الرؤية الفكرية، وهكذا العلاقات والفوارق بينها إدراك عقلي منها إدراكات مجتمعة في التصور.. ثم إن إدراك الكلي نسبي بالنسبة للمخلوقين؛ فالكلي هو ما أحصاه تاريخ الفكر البشري من جوانب الشيئ التي أدركها البشر بالمعرفة والعلم؛ وأما الإحاطة بحقيقة الشيىء من كل جوانبه فلا يملكها إلا خالقها جل جلاله كما قال تعالى: {يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِّنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ} [ سورة الروم/7]، وأقرب مثال لذلك منتى الصيرورة لبعض الأشياء التي تفنى القرون البشرية ولم تدركها، أو لم تدرك إلا قليلاً منها.. وأما تعريف الفكر في تراثنا: فمنه تعريف (الجرجاني) رحمه الله تعالى بأنه (ترتيب أمور معلومة لتأدي إلى مجهول)؛ فهذا ليس تعريفاً للفكر، بل هو بيان لبعض وظائف التفكير في انتقاله مما علمه إلى ما يأمل أن يعلمه، ووظيفة التفكير أعم من ذلك؛ فهي تبدأ بالمعلوم نفسه، ليأخذ من جوانبه الأخرى زيادة علم أو معرفة؛ وفي تعريف (الكفوي) أن الفكر هو (حركة النفس نحو المبادئ والرجوع منها إلى المطالب). قال أبو عبدالرحمن: المبادىء هي المرادفة للمعلوم في تعريف الجرجاني، والمطالب ترادف المجهول؛ ثم إن النفس أعم من الفكر؛ فهي جسد وروح ومشاعر وعقل من قواه الفكر والتفكير، والتعريف بعد ذلك بيان لبعض وظائف الفكر إذا حصلت له رؤية بالتفكير، وليس تعريفاً للفكر نفسه، والتقصي للشتات اللغوي والاصطلاحي في مادة واحدة فقط كالفكر يطول جداً، ولا تتحمله سبتيتي؛ وإنما ذلك لأسفار الكتب، وإلى لقاء عاجل إن شاء الله، والله المستعان.
مشاركة :