تنفس سكان مدينة إدلب السورية الصعداء مع إعلان الرئيسين التركي والروسي التوصل لاتفاق تسوية قد يجنبها هجوماً عسكريا ثلاثيا، روسيا سوريا إيرانيا، كان ليؤدي لتدميرها وتهجير سكانها ولإنهاء أكبر معاقل المعارضة السورية في شمال البلاد. لم ينص الاتفاق صراحة على استبعاد الخيار العسكري في مدنية إدلب، ولكنه تضمن تفاصيل تخص إنشاء منطقة منزوعة السلاح تصل مساحتها من 15 إلى 25 كيلومترا، سوف تخضع لدوريات أمنية من جانب القوات الروسية والتركية. وهو ما يبقي مستقبل المدينة ومصير سكانها مجهولا في ظل احتمالات فشل إنشاء مثل تلك المنطقة وتجدد أجواء الحرب على المدينة. يضاف إلى تلك المخاوف عدم وجود توافق حول التداعيات السياسية المستقبلية للشراكة الروسية – التركية في إدلب وفي سوريا بصورة عامة. وهو ما يطرح السؤال حول حقيقة ومعنى ذلك الاتفاق. هل كان محصلة لـ”دبلوماسية نشطة” تركية روسية إيرانية، كما وصفها الأطراف الثلاثة، وباعتباره امتداداً لمسار أستانة؟ أم كان محصلة لـ”الخط الأحمر” الذي رسمته تركيا قبل نحو شهر حيث رفضت خيار الهجوم العسكري على إدلب وحذرت من رد فعل قوي لما سيسببه من أزمة لاجئين غير مسبوقة. إذ ستؤدي أي عملية عسكرية شبيهة بعملية حلب أو بعملية الغوطة الشرقية التي استخدم فيها السلاح الكيماوي إلى تهجير نحو ثلاثة ملايين سوري يعيشون في مدينة إدلب ومحيطها. تضيف تركيا سببا آخر لرفضها للهجوم العسكري للنظام السوري ويتعلق بالحفاظ على حظوظ التوصل إلى تسوية سياسية. إذ تأمل أنقرة بأن يشكل وجود جيب واسع للمعارضة السورية في الشمال السوري ورقة ضغط في مفاوضات جنيف تدفع النظام السوري للقبول بإدارة محلية تحفظ وجود المعارضة وتساعد بعودة اللاجئين السوريين من تركيا.غير أن من يعرف طبيعة النظام السوري يدرك استحالة أن يوافق على وجود أي منطقة خارج سيطرته المركزية وبعيدة عن قبضة أجهزته الأمنية. ليس معروفا إن كانت تركيا قد اتفقت مع روسيا على تطبيق مثل هذا السيناريو، خصوصاً أن البعض يجادل بوجود مصلحة لموسكو بإنشاء تلك المنطقة، وذلك بعد استبعاد التنظيمات الجهادية. ولكن التدقيق بالمسألة يكشف أن ذلك غير صحيح. فليست مشكلة روسيا في سوريا هي وجود الجهاديين بل وجود المعارضة السورية. لقد تركزت جهود موسكو خلال سنوات تدخلها العسكري المباشر في الحرب السورية على قتال المعارضة السورية وخصوصا المعارضة المعتدلة منها، وكان قتال التنظيمات الجهادية مثل القاعدة وداعش آخر اهتماماتها. ثانيا، تؤكد متابعة السلوك السياسي والعسكري لموسكو خلال العام الماضي، أي منذ توصلت لإستراتيجية مشتركة مع تركيا بخصوص سوريا، أنها لم تقطع وعودا لا لتركيا في الشمال ولا للولايات المتحدة في الجنوب بإقامة مناطق إدارة ذاتية للمعارضة السورية، وهي بذلك منسجمة مع إيران والنظام السوري. لا يزال الموقف الروسي يتمثل بضرورة أن يسيطر النظام على كامل البلاد سواء بالحرب أو عن طريق ما يسمونه “المصالحات”. بهذا المعنى تبقى موسكو على خلاف حاد مع تركيا بما يخص مستقبل مدينة إدلب. في الحقيقة يشمل الخلاف مستقبل سوريا بصورة عامة، وإن بدا أن الطرفين قد اتفاقا على رؤية مشتركة لذلك المستقبل. إن حديث كل من تركيا وروسيا عن أهمية العودة لمفاوضات جنيف لا يعني تشاركهما رؤية واحدة لمستقبل البلاد. ففي حين تنظر تركيا لمفاوضات جنيف كفرصة لتخفيف مركزية النظام السوري بما يحافظ على وجود مستقل للمعارضة السورية، تنظر روسيا لتلك العملية السياسية كمسار يعطي الشرعية للنظام السوري، وخصوصا الشرعية الدولية المرتبطة بإعادة الإعمار. بهذا المعنى، ترتبط موافقة روسيا على اتفاق إدلب في الوقت الحالي بمحاولة رفع الضغوط التركية- الدولية عنها من دون تقديم أية تنازلات محددة تخص الوضع المستقبلي للمدينة. نجحت الضغوط التركية في التأثير على موسكو التي تريد الإبقاء على علاقة متينة مع أنقرة وخصوصا أنها مقبلة على مرحلة جديدة تتطلع فيها للعب دور سياسي في المنطقة لا في سوريا فقط. كما رضخت موسكو لضغوط من قبل طيف واسع من دول العالم. فخلال الأسابيع الماضية حذرت الولايات المتحدة من الهجوم على إدلب، كما ربطت دول أوروبية عديدة مشاركتها بإعادة الإعمار بوقف الهجوم على المدينة. ما جرى الاتفاق عليه هو تأجيل حسم أمر مدينة إدلب ورمي الكرة في ملعب تركيا المطالبة بإخراج التنظيمات الجهادية من المدينة. وحتى في حال نجحت تركيا في إنهاء تواجد تلك التنظيمات وأصبحت إدلب تحت سيطرة الفصائل العسكرية التابعة لها، فمن المرجح أن يجري دفعها من قبل روسيا لتسليمها للنظام السوري في نهاية المطاف. ما قد يغير مصير إدلب، وشمال سوريا بصورة عامة، هو التوصل لإستراتيجية أميركية – تركية مشتركة تخص حاضر ومستقبل تلك المنطقة. أمر يبدو مستبعداً في الوقت الحالي.
مشاركة :