في مستهل فيلم المخرجة نادين لبكي «كفرناحوم»، يسأل قاضٍ في المحكمة الفتى الموقوف زين: «لماذا تريد مقاضاة والديك؟»، فيجيبه بجرأة وبراءة: «لأنهما منحاني الحياة». هذا الجواب غير «الطفولي» بتاتاً، سرعان ما يتحرر من «شعاريته» ورمزيته بعد أن يكتشف المشاهد شخصية هذا الفتى االسوري المهجر وفطرته وحنكته أو ذكاءه كشخص أولاً وكشخصية أمام الكاميرا ثانياً. أصلاً، لم تفصل لبكي في فيلمها بين الأشخاص (الممثلين) والشخصيات التي يؤدونها، إنهم هم أنفسهم غالباً وراء الكاميرا أو أمامها، اختارتهم من قلب الحياة أو من هامشها ليظلوا في قلبها وعلى هامشها في أدائهم أدواراً هي الأدوار التي يعيشونها في حياتهم اليومية والواقعية. لم تختر ممثلين أو ممثلات، لا من اهل الاحتراف ولا من جماعة الكومبارس، اختارت أناساً حقيقيين أو قل «أبطالاً» من لحم ودم ليطلوا كما هم، كما يشعرون وينفعلون ويتفاعلون، ولكن طبعاً تحت إدارتها البارعة. كيف عثرت لبكي وفريقها على هؤلاء «الممثلين» الطبيعيين والفطريين الرائعين الذين لم يقفوا مرة أمام كاميرا؟ إنهم أبناء الأحياء الفقيرة، المهمشة والمعزولة في ما يشبه غيتوات الضواحي الفقيرة والمهملة وأحياء الصفيح (النبعة، الكرنتينا، منطقة الكولا...) التي تدور فيها وقائع الفيلم، بحثت عنهم ووجدتهم، على اختلاف هوياتهم أو لا هوياتهم، مهجرين سوريين وعاملات آسيويات بلا أوراق وفقراء لبنانيين... وجميعهم يعانون الحرمان والبؤس والاضطهاد والملاحقة. أناس يعيشون في عامل سفلي لم ينسهم البشر فقط بل القدر أيضاً. هل يمكن تصنيف فيلم «كفرناحوم» (فاز بجائزة لجنة التحكيم في مهرجان «كان» الفرنسي ويمثل لبنان في مهرجان الأوسكار)، في خانة الواقعية كما قد يخطر للفور في بال مشاهده؟ طبعاً، هذا فيلم واقعي، واقعي جداً، بل هو يجاهر بواقعيته علناً، لكنّ المخرجة عرفت كيف تعيد صوغ هذه الواقعية القاسية سينمائياً، جاعلة إياها واقعية فنية، شعرية، وجدانية، مضفية عليها بعداً مأسوياً أو درامياً، ومشرعة إياها في آن واحد على بعد توثيقي يظل دوماً في خدمة النسيج السينمائي. تقترب لبكي في بعض اللقطات أو المواقف من الميلودراما، لكنها لا تقع فيها بتاتاً، بل هي تتخطاها بمرونة وترتقي بها، وتقارب أحياناً التقرير التسجيلي لكنها سرعان ما تتحرر منه موظفة التوثيق لمصلحة المأساة. ولم تكن استعانتها بالإعلامي جو معلوف صاحب البرنامج الاجتماعي الشهير (هوا الحرية) على قناة (إل.بي.سي.آي) في ما قبل نهاية الفيلم إلا تأكيداً لأجواء الفيلم وخلفياته القائمة في أرض الواقع، زماناً ومكاناً. وتجاور لبكي في أحيان أخرى السخرية المرة أو العبثية في لقطات ومواقف بديعة، لكنها ترتقي بها إلى مرتبة إنسانية عالية، فتبدو السخرية كأنها تخفي بعداً تراجيدياً. هذه العناصر أو الأنواع تنسجها لبكي ببراعة وشفافية، جاعلة من نسيجها مادة الفيلم ذاته. ليس فيلم «كفرناحوم» فيلماً روائياً في المعنى التقليدي للفيلم الروائي. لا قصة معلنة هنا ولا سرد كرونولجياً ولا أحداث تبدأ لتنتهي. حتى بنية الفيلم مفتوحة على المصادفات التي يقود إليها «البطل» الصغير في رحلته الشاقة التي بدأها، هارباً من بيت أهله البائسين وأنهاها في سجن الأحداث البائسين أيضاً. إنها باختصار «قصة» هذا الفتى السوري المهجر الذي يدعى زين، والمنتمي إلى عائلة فقيرة، بل معدمة تعيش في أطراف بيروت المجهولة، في غرفة تشبه قن الدجاج. ينتقم زين لشقيقته ابنة الأحد عشر عاما التي يزوجها الأب القاسي والأم اللامبالية لرجل فتموت إثر نزيف حاد. يطعن زين «المغتصب» بالسكين في ظهره ويدخل سجن الأحداث. إلا أن رحلة زين ستكون هي ذاتها رحلة الكاميرا إلى عالم مجهول نادراً ما يخرج إلى الضوء. تصبح عين زين المشرد، بل المتجول هي عين الكاميرا وعين الإخراج وعين النص... لم تتقصد نادين دخول «العالم السفلي» الذي يعيش فيه هؤلاء البشر من أجل تحقيق فيلم يتوخى صدم المشاهدين بقسوته، ولا تسعى إلى أداء دور المخرجة التي تبحث عن مادة «تغريبية» تدهش بها جمهورها، اللبناني والعربي والعالمي. لقد أُنجزت أفلام عدة عما يسمى «مدن الصفيح» في البرازيل والمكسيك ومصر وسواها، وبدا بعضها يحمل غاية واحدة هي جعل هذه المدن البائسة مادة بصرية ودرامية مثيرة أو جاذبة. نادين لبكي تذهب أبعد - وأعمق - من هذه الغاية. إنها تريد أن تجعل هذا العالم السفلي يشهد على ذاته ويكشف نفسه بنفسه. ولعل هذا ما دفعها إلى الاتكاء على العنصر البشري أي على الإنسان. العائلة المهجرة هي عائلة تعاني علناً من حال التمزق والقرف واليأس، أفرادها لا يعيشون حياة سوية، مثلهم مثل الناس الذين يحيطون بهم. الأب والأم في خصام دائم يقع الأبناء ضحيته. لكن العلاقة الجنسية لا تتوقف والإنجاب لا يتوقف (في إحدى اللقطات الجميلة يفاجأ زين في سجنه بأن أمه حامل فيضطرب وينفر منها). هذه العائلة صورة عن البيئة التي تنتمي إليها، داخلها يشبه ما هو خارجها: فقر مدقع، مخدرات، تهريب، سرقات، احتيالات، شتائم، تشرد... من هذه البيئة، يخرج زين ليكتشف وجوهاً أخرى لهذا العالم السفلي ويدفع المشاهد إلى أن يشاركه هذا الاكتشاف، اكتشاف معالم وشخصيات ووقائع لبنانية أو بيروتية لا تخطر في بال: مدينة الملاهي حيث يصادف زين شخصيتين غاية في الطرافة والفانتازيا: الرجل – الصرصور والمرأة الشمطاء المشردة اللذين يعيشان على طريقتهما، وهما سيصبحان فردين من العائلة الصغيرة التي سيكوّنها زين بعد تعرفه إلى راحيل الخادمة الإثيوبية التي بلا أوراق وابنها يوناس (تؤديه طفلة أفريقية أسرتها بلا أوراق)... في مدينة الملاهي يمارس زين ألعابه بحرية، وأبرزها أو أطرفها تعريته الدمية العملاقة من سترتها وكشف نهديها البلاستيك. في مدينة الملاهي هذه، يتعرف زين إلى راحيل التي تعمل في مقهى داخلها. كان زين هو الذريعة لولوج عالم آخر هو عالم العاملات الآسيويات والأفريقيات المهاجرات او المتسللات بلا أوراق أيضاً. وهذا عالم يضاف إلى عالم المهجرين وعالم الصفيح. وسيضاف إليهما أيضاً «سوق الأحد» أو سوق الفقراء الذي نادراً ما يدخله سواهم، ثم السجن الذي ترمى فيه العاملات غير الشرعيات قبل ترحيلهن إلى بلادهن التي فررن منها، ثم سجن الأحداث. تبرع لبكي في تصوير هذه العوالم المتداخلة وفي تركيب مشهديتها. وكم تنجح في «مطاردة» زين في رحلته وحيداً حيناً هائماً متشرداً ومرتكباً «آثامه» البِيضَ، وحيناً مع الطفل يوناس بعد ما تم القبض على أمه ورميت في السجن. وفي غيابها، يصبح زين هو «الأم» ولا يتوقف الطفل يوناس عن تلمس صدره بحثاً عن النهدين اللذين اعتاد رضاعتهما بينما أمه تضغط ثديها في السجن الذي أوقفت فيه لتُخرج الحليب منه في لقطة سينمائية رهيبة. أما رحلة زين التي تنطلق من تخشيبة راحيل إلى «الخارج» ومعه الطفل يوناس يجره في عربة من تنك الطناجر أو يمسك يده ويفلتها في أحيان، فهي من أجمل اللحظات المشهدية لا في فيلم لبكي فقط بل في السينما عموماً. وأصلاً، فيلم «كفرناحوم» هو لبناني بامتياز بمقدار ما هو كوني أو عالمي بامتياز، ولعله يعبر بصدق وجرأة عن مأساة الهجرة والنزوح التي تشغل العالم راهناً. لا يمكن الإحاطة بما يضم الفيلم من مواقف ووقائع وأحداث وشخصيات نظراً إلى غناه ورحابة عالمه البصري والدرامي البديع، القاسي والحنون في آن واحد. وبدت الموسيقى التي وضعها الفنان خالد مزنر كأنها نابعة من قلب المشهدية السينمائية، فهي لم تأت من خارج الفيلم بمقدار ما بدت عنصراً أساسياً من عناصر بنيته أو تكوينه. وما يجب قوله ختاماً هو أن هذا الفيلم البديع والقوي لا يمكن حصره فقط في كونه فيلم قضية، هي قضية النازحين والمهجرين والعمال والعاملات الأجانب الذين يعانون من من التهميش والاضطهاد، بل إنه أيضاً بل قبلاً، فيلم بديع بجمالياته وتقنياته العالية ومداه التعبيري وبراعة تصويره وإخراجه. «كفرناحوم» منعطف في السينما اللبنانية الجديدة.
مشاركة :