ليس لجيمي ميزين، المراهق البريطاني الذي قُتل بعد يوم واحد من عيد ميلاده السادس عشر، نصب تذكاري. ومع ذلك، يمكن اعتبار لندن كلها نصبه التذكاري بطريقة أو بأخرى. ففي العاصمة البريطانية التي ينتشر فيها العنف بين المراهقين على نحو قياسي هذه الأيام، هناك من يريدون استخدام تلك الأحداث المأسوية لتغيير ثقافة العنف السائدة، ومساعدة المراهقين على عبور تلك المنعطفات الصعبة ومشاركة الدولة في إيجاد حلول لانتشار عنف المدن، وذلك عبر «خلق مساحات عامة آمنة». وفي حالة جيمي، فكّر والداه في أن الردّ ليس بالانتقام والغضب، بل بحماية من هم مثل جيمي من مصير مماثل وذلك عبر إنشاء «ملاذات آمنة» في شوارع لندن تقي المراهقين من العنف المنظّم ومافيات الجريمة التي تستغل صغار السن في ممارسات غير قانونية، تعرّضهم لخطر محدق. فمنذ مطلع هذا العام، قُتل حوالى 100 شخص، غالبيتهم في العشرينات من أعمارهم، طعناً بالسكين في حوادث جلّها مرتبط بالعنف والجريمة المنظّمة. ولدت مبادرة «ملاذ آمن من أجل جيمي» بتكاتف الأسرة ومنظمات أهلية والسكان في جنوب شرقي لندن، بعد مقتل جيمي قبل 10 أعوام، وهي تقوم على أن تكون المتاجر والمحال الخاصة بمثابة «ملاذ آمن» للشباب من العنف، عبر استخدامها «مكاناً مأموناً» و «حصناً» في مواجهة العصابات المنظّمة ومثيري الشغب والميالين إلى استخدام العنف. وكل ما يتطلّبه الأمر هو أن تضع تلك المتاجر والمحال ملصقاً أصفر كبيراً مكتوباً عليه «ملاذ آمن من أجل جيمي»، كي يعرف المراهقون وصغار السن أن تلك المتاجر والمحال سترحّب بهم وتحميهم في حالة التعرّض لهم بالعنف أو التشاجر معهم. لم تكبر مبادرة «ملاذ آمن من أجل جيمي» بين ليلة وضحاها، بل تدرّجاً وعلى مدار أعوام، وخلال العام الحالي تحديداً. وبسبب موجة العنف التي لا سابق لها في العاصمة البريطانية، زاد عدد المتاجر والمحال المشاركة في المبادرة، كما استحدثت مبادرات أخرى. ويقول باري وماغريت ميزين، والدا جيمي أن «الرحمة بدلاً من الانتقام» هي ما قادت في نهاية المطاف إلى ولادة المبادرة التي باتت إحدى وسائل الحماية من عنف الشوارع المفاجئ الذي يتورّط فيه عادة شبان ومراهقون من دون أن يدركوا عواقبه. قُتل جيمي في أيار (مايو) 2008، بعد يوم من عيد ميلاده الـ16، وذلك عندما ذهب وأخاه الأكبر إلى مخبز بالقرب من منزلهما في جنوب شرقي لندن. وأثناء وجودهما في الداخل، التقيا مراهقاً آخر حذّرته الشرطة من قبل بسبب مضايقاته شقيقَ جيمي، ثم نشب شجار، أصيب فيه جيمي بجروح قاتلة. ينفّذ قاتل جيمي عقوبة السجن مدى الحياة، وتعرّض والداه لتهديد بالاعتداء. لكن باري ومارغريت، والديّ جيمي وأسرته ناشدوا آنذاك بـ «أن يُترك والدا قاتل جيمي وحدهما لأن ذلك لم يكن خطأهما. الغضب يولّد الغضب. والغضب قد قتل ابننا ويمكن أن يدمّر عائلتنا أيضاً». وبعد أسبوع من وفاة جيمي، يقول والده باري أنه كان يخطط للحديث عن تفكك المجتمع، ولكن بدلاً من ذلك وجد نفسه يقول: «هل نحن في حاجة إلى مزيد ومزيد من التشريعات، أم إننا في حاجة إلى أن نسأل أنفسنا عن نوع المجتمع الذي نريد أن نعيش فيه؟ يجب أن يأتي التغيير من كل واحد منا». جلس باري ومارغريت حول طاولة مطبخهما في عام 2008 مع الأصدقاء والعائلة، وقال أحدهم أنه ينبغي عليهم تأسيس جمعية خيرية للحماية من العنف. فهناك الكثير الذي يمكن أن تفعله منظمات المجتمع المدني جنباً إلى جنب مع الدولة. فتأسست «مؤسسة جيمي ميزين»، في عام 2009، ثم تغيّر اسمها إلى «ملاذ آمن من أجل جيمي». ويواصل باري ميزين: «نحن في حاجة إلى النظر إلى ما يحدث عندما يتورّط شبابنا في العنف. نحن في حاجة إلى فهمهم من أجل معرفة لماذا يفعل أولئك الذين يؤذون الآخرين ما يفعلونه. هل نحتاج إلى مزيد من القوانين؟ لا أعتقد ذلك. عندما يُقتل شاب آخر، لا أريد سياسياً يعلن قانوناً جديداً ومن ثم، تُحل المشكلة. هناك شعور بالمسؤولية الشخصية التي يجب أن يتمتع بها كل واحد منا. لدينا القدرة على بناء هذا النوع من المجتمعات التي نرغب في العيش فيها. لا ينبغي أن ننتظر الشرطة أو السياسيين». «تسكّع مع واي فاي» ولا يقتصر نشاط الجمعية على توفير الملاذات الآمنة لحماية من يمكن أن يكونوا ضحايا محتملين للعنف. فقد وسعت الجمعية نشاطها في الآونة الأخيرة ليشمل تقديم خدمات «واي فاي» مجانية للشباب والمراهقين للحدّ من ظاهرة «التسكّع» العبثي في الشوارع، والتي تؤدّي إلى سقوط عدد منهم ضحايا للعصابات المنظمة. وتحمل المبادرة اسم «تسكّع مجاناً مع واي فاي»، وهي تقدّم خلال أشهر الصيف عندما يكون هؤلاء الشباب من تلك الشريحة العمرية في الإجازات المدرسية وليس لديهم الكثير ليقوموا به. وتساعد على أن يلتقي هؤلاء بأصدقاء جدد خلال العطلة، وتوفير مكان آمن للتفاعل الاجتماعي مع خدمة «الواي فاي» مجاناً من العاشرة صباحاً حتى الخامسة مساء. ومن النشاطات الحديثة التي أطلقت في الأشهر الأخيرة، برنامج «تعال وساعد من أجل جيمي»، الموجّه إلى المراهقين والشباب (13 - 25 سنة)، ويعلّمهم مهارات التطوع في «الملاذات الآمنة» ومساعدة صغار السن من ضحايا العنف. أيضاً، هناك ورش عمل في المدارس لمساعدة المراهقين على المساهمة في جعل مجتمعاتهم أكثر آماناً، والمساهمة في إنشاء ملاذات آمنة محلية في الأماكن العامة، وفي المقام الأول المتاجر التي تعرض ملصقاً على نوافذها يعلن عن توافر «ملاذات آمنة» للشباب الذين يشعرون بعدم الأمان في الشارع لسبب أو لآخر، حيث يدخلون تلك المتاجر والمحال، فيغلق القائمون عليها الأبواب ويتصلون بالشرطة. ومع أن شرطة لندن تنشر قوات إضافية في عطلة نهاية الأسبوع بهدف ضبط مزيد من الأسلحة والعصابات في شوارع المدينة، إلا أن مزيداً من الإجراءات بات ملحاً. وتُظهر آخر الإحصاءات الصادرة عن شرطة العاصمة البريطانية أن جرائم الطعن بالسكين قد ارتفعت 16 في المئة. وباستثناء أولئك الذين قُتلوا في هجمات إرهابية مثل اعتداءات لندن بريدج، وستمنستر، ومانشيستر، لا يزال هناك ارتفاع في جرائم القتل بنسبة 12 في المئة، وهو أعلى معدّل خلال الأعوام العشرة الأخيرة. وخلال عام، تجاوز العدد الإجمالي للجرائم التي استخدمت فيها الأسلحة البيضاء أو السكين الـ40 ألف حالة من آذار (مارس) 2017 إلى آذار 2018، وهو أعلى مستوى خلال سبعة أعوام. وفي لندن، سجلت الشرطة 1299 حالة طعن حتى أيار الماضي، نجم عنها حوالى 100 حالة وفاة. حالة استنفار وقبل أسابيع، دعا صديق خان، عمدة لندن، إلى استخدام رجال الشرطة حق «التوقيف والتفـــتيش» لأي شـــخص يشـــتبه بحمله أسلحة في شوارع العاصمة، وذلك تزامناً مع نشر 300 شرطي إضافي في بعض المناطق عقب مقتل 6 أشخاص في حوادث طعن وإطلاق نار متفرّقة خلال أسبوع واحد في نيسان (أبريل) الماضي. ونقلت «بي بي سي» عن خان آنذاك، أن إجراء التوقيف والتفتيش «أداة قيمة» في أيدي رجال الشرطة إذا استُخدمت بطريقة مناسبة. ودعا في الوقت ذاته إلى «تحديد المناطق التي يُستخدم فيها هذا الإجراء واستخدام تحريات أجهزة الأمن». وألقى باللائمة على اقتطاع مخصصات الشرطة ومراكز دعم الشباب في زيادة معدل الجريمة. ولأسلوب «التوقيف والتفتيش» سمعة سيئة جداً في بريطانيا، إذ كان يُـــساء استخدامه عندما طُبق في شكل «عنصري» خلال ثمانينات القرن الـ20 وتسعيناته، حيث كان يعتقل البريطانيون من أصول أفريقية أكثر من غيرهم من العرقيات. وتقول سارة ثورنتون، عضو «مجلس رؤساء الشرطة»، أنه لا يمكن استخدام صلاحيات «التوقيف والتفتيش» بطريقة عشوائية، كما أنها قد تجدي نفعاً في مواقع انتشار الجريمة. وتوضح أن رجال الشرطة يترددون في ذلك لتفادي «الحساسية العرقية» في المجتمع، محذّرة من أن «وظائف الشرطة لا يمكن أن تتعامل مع الأوضاع الاجتماعية التي تؤدّي إلى العنف». وتستدرك: «على رغم أن صلاحيات التوقيف والتفتيش أو الاعتقال ليست حلاً جذرياً، أرى أنها أداة فعالة في حماية المواطنين من جرائم العنف». ومع أن كريسيدا ديك، مفوّضة شرطة العاصمة، تنفي أن تكون قوات الأمن «فقدت السيطرة» على الشوارع، إلا أنها تعترف بأن شرطة العاصمة في حالة «استنفار». ويقول باري ميزين: «عندما فقدت عائلتنا ابننا، غيرت حياتنا في شكل جذري. لكن منذ ذلك اليوم، صممنا على إحداث تغيير إيجابي في مجتمعنا. نجري الآن مناقشة مطوّلة حول الدور الذي يمكن أن يلعبه كل واحد منا، من السياسيين والشرطة، إلى الأعضاء العاديين في المجتمع. وهذا يعني تحدّي الافتراضات الشائعة على نطاق واسع وطرح أسئلة كبيرة حول نوع المجتمع الذي نريد أن نكون عليه. إن إرث جيمي لن يكون الثأر أو الخوف، بل الأمل والسلام. من فضلك لا تشعر بالأسف من أجلنا».
مشاركة :