قوانين الطبيعة، بين العدم والوجود والتغييب ما بعد الوجود، قضت بأن يأخذ المفكر الكبير سمير أمين الراحة الأبدية، وبعد عطاء فكري متطور وعميق، أن يدخل مع هذه الراحة الأبدية إلى عالم الخلود. المفكر الكبير سمير أمين هو أحد الكرماء في عالم الفكر والثقافة ذات الطابع الإنساني، الذي تخلده أعماله، فالخلود حتمي بالنسبة لأمثاله، فكانت لحظة الوداع مع الوجود يوم الثاني عشر من أغسطس هذا العام، والسفر إلى عالم السكينة والاستراحة الأبدية. ودَّعنا تاركاً لنا إرثه الثمين من كنوز الفكر الإنساني المشبعة بروح العمل والإبداع الفكري من أجل بناء مستقبل آمن وكريم وعادل لكل البشرية. كان مخلصاً في عمله الفكري إخلاص الأم لأبنائها، ما كَلَّ وما تأفف وهو ينتج الأفكار والنظريات ويجادل ويحاور بروح متأهبة نشطة، وما كان ليهتم بشئونه الشخصية في كتاباته ، ولا في المقابلات واللقاءات التي كانت تجريها معه وسائل الإعلام المختلفة، وبهذا الشأن كان يقول بلهجته المصرية المعهودة: « أنا مش جاي أتكلم عن شخصيتي والحاجات دي. أنا بتكلم في السياسة. أنا إنسان سياسي وشيوعي، ولن أتنازل عن ذلك». صرح فكري كبير، فهو في الصف الأمامي لصفوة النخبة من المفكرين الكبار، يتناول المواد الفكرية، السياسية والاقتصادية، بأبعادها الأفقية والعمودية وعلى مساراتها الزمنية. بشوق ولهفة وبإحساس بالمسؤولية الوجدانية والإنسانية، وكأنه الموظف المجد المطيع المتفاني في عمله، يعمل في مؤسسة عظيمة اسمها «الإنسانية». وبالمفهوم الإنساني الشامل ودون الخوض في المدارس المتعددة التي تنادي بالإنسانية، فإنه كان من الدعاة النشطين لتحرير الإنسان المضطهد المستغل المظلوم من الإنسان الأناني الطفيلي الذي يعيش على اضطهاد الآخرين واستغلالهم وبالنتيجة ظلمهم. كان يرى ويؤمن بأن هذا هو دوره ووظيفته في الحياة. كل هذه النزعة الإنسانية المتدفقة في شرايين فكره ونفسه وهو ابن طبقة مرفهة تجاور البورجوازيات، فهو ابن لأب طبيب وهو مصري الأصل، ولأم طبيبة وهي فرنسية الأصل، حياة ناعمة في ظل رغد العيش ونعمة الرعاية الصحية، وآفاق مستقبلية تفتح له أبواب الثروة والجاه وقرب من السلطة، فليس في حياته أي شيء ينكد عليه حياته، وكان من الممكن والمتوقع، وهو ابن هذه البيئة، أن يكون ذلك الابن المدلل الذي لا يهمه من الحياة سوى مظاهرها البراقة وحفلاتها الماجنة، والترفع على أبناء الطبقات الكادحة، والازدراء من جمهرة الفقراء الذين لا ينتمون إلى أية طبقة، لأن الفقر ما دون الفقر قد حرمهم من أهلية الإنتماء لأدنى طبقة إجتماعية، وهؤلاء، وللعار على الذكاء البشري، فهم في تكاثر مطرد مع تطور الحضارة البشرية. رغم أنه ولد وفي فمه ملعقة فضية مصقولة بالذهب، إلاّ أن بصيرته، النابعة من نفس زكية، كانت شاخصة على الإنسان المحروم، فكانت بصيرته الزكية تشعره بالذنب عندما كان يقارن حياته الميسورة بالحياة العسيرة التي تعيشها الأغلبية في وطنه مصر وفي العالم أجمع، فنظرته الإنسانية لم تكن محصورة في حدود وطنه، بل فإن تلك النظرة تخطت الوطن إلى الأممية العالمية، إلى الإنسانية في كامل كيانها الكوني. بهذا التناقض، شبه التناحري، بين الطبقة التي ينتمي إليها والطبقات الأدني التي كان يستميت في الدفاع عن حقوقها وعن كرامتها، ويحرضها للنضال ضد الطبقة التي ينتمي إليها، فهو بوذا هذا الزمان بهذه الصفات المتمردة والشجاعة والتي تنحى في اتجاه إكرام الفضيلة وإذلال الرذيلة، وهو بهذه الشجاعة النادرة الأقرب إلى ثورة بوذا ضد الذات. لقد تَمرد بوذا على ذاته، ذات نفسه، الملكية والتحق بركب الذين لا يملكون، من أجل أن يتحرر من قيود الأنانية الخانقة، وكان نضاله من أجل الذين لا يملكون نضالاً سلمياً يتسم بالحكمة والموعظة والحب، وهكذا كان مفكرنا الكبير سمير. أكاديمياً ومهنياً فقد كان أحد كبار الاقتصاديين على المستوى العالمي، عمل مستشاراً لدى الدول والمؤسسات والهيئات وضمنها الأمم المتحدة، وقد كرس مكتسباته العلمية والمعرفية في الاقتصاد والسياسة من أجل متابعة النضال البروليتاري ضد البرجوازي، رغم انتمائه الى الطبقة البرجوازية بالولادة ولكن ليس بالفكر. مساهماته النضالية ركزت على تحليل المستجدات في العلاقة غير المتكافئة بين الذين يملكون وسائل الإنتاج والذين يملكون طاقة العمل، وله كتب عدة تتضمن نظريات اقتصادية هي في الواقع الفكري امتداد لرأسمال كارل ماركس ومساهمة لينين الفكرية في كتابه «الامبريالية أعلى مراحل الرأسمالية»، وكتابه «التراكم على الصعيد العالمي - نقد نظرية التخلف «يتضمن نظريته عن المستجدات ما بعد كارل ماركس ولينين، فهو في هذا الكتاب يستخلص نظرية «الرأسمالية الطرفية»، ويتعرض بالتحليل الاقتصادي-السياسي بموضوعية اقتضتها التطورات اللاحقة للرأسمالية السلعية وتكون الرأسمالية المبنية على التجارة العالمية والرأسمالية المبنية على استثمار الرأسمالية الأجنبية، وما ينتج عنها من تشكيلات اجتماعية جديدة. وهذا الامتداد الفكري لكارل ماركس ولينين يلازمه بالضرورة امتداد سياسي، فهو من المبادرين في الدعوة الى إحياء المؤسسة الأممية التي تحمل شعلة النضال من أجل عالم أفضل، فقد أسس كارل ماركس ورفيق دربه فريدريك انحلز «الاممية الأولى»، وتبعتها الثانية والثالثة والرابعة، وبعد عقود من توقف مسيرة الأممية رأى المفكر الكبير بأن الوقت قد حان لتأسيس «أممية خامسة»، وهو بهذه الدعوة يعد الامتداد الكامل لما بدأه كارل ماركس، وهو كذلك بمساهماته الفكرية بالأدوات والمنهاج العلمي في الاقتصاد والسياسة بؤكد على أن ما بدأه ماركس يتواصل مع المتغيرات والمستجدات، وأن الإنطلاقة الأولى مع فجر الرأسمالية وتبعاتها وتشخيصها لا تتوقف لدى حدود عقيدية مغلقة، بل أن هذا الفكر مشعل على دروب التاريخ ينير كل تغيير وجديد، وبتطورات فكرية تواكب وتهضم وتعالج المستجدات التي لا تتوقف، وهذا هو منطق التاريخ الذي يؤكد أن التغيير هو العنصر الوحيد في الحياة والذي لا يتغير. قبل عشرة أعوام قيل عن سمير أمين أنّه « أحد الكبار الباقين» والْيَوْمَ وبعد وداعه لنا والغياب في استراحته الدائمة، من حقه علينا أن نقول عنه إنّه «أحد الكبار الخالدين»...
مشاركة :