«فلسطين: التاريخ السياسي من كامب ديفيد إلى أوسلو» كتاب من تأليف سيث آنزيسكا، وهو يتعمق في تحليل الطرق الوعرة التي اتسمت بها عملية السلام في منطقة الشرق الأوسط خلال الأربعة عقود الماضية من الزمن. إن القارئ ليشعر بوخزات الألم وهو يتصفح هذا الكتاب البالغ الأهمية. ظل المؤلف يراقب عن كثب التطورات التي جدت في منطقة الشرق الأوسط مند حرب أكتوبر 1973، بل إنه شارك في العديد من تلك التطورات التي طبعت الأربعة عقود الماضية؛ لذلك فهو في كتابه الجديد يعيد فتح الجراح الغائرة ويسلط الأضواء على الأحداث الأليمة والخيانات المتكررة التي طبعت التاريخ الفلسطيني القريب. لقد حدث الكثير من التقلبات والتطورات كما نشب الكثير من الحروب وأطلق الكثير من المبادرات السياسية. في خضم كل تلك الأحدث والتطورات والمبادرات ظلت إسرائيل ترفض دائما الاعتراف بحق الشعب الفلسطيني في تحقيق المصير وإقامة الدولة المستقلة. يعدد المؤلف في اختصار أولئك الذين أذنبوا في حق الشعب الفلسطيني طيلة هذه المدة وهم كثيرون. إنه يلقي باللائمة باختصار في كتابه، على أغلب الأطراف التي ارتبطت بتاريخ الصراع بين إسرائيل والفلسطينيين، جميع الإدارات الأمريكية التي تعاقبت على البيت الأبيض والتي تعاملت خلال هذه المدة مع الصراع بين إسرائيل والفلسطينيين، إضافة إلى رؤساء الحكومات الفلسطينية المتعاقبة، سواء من حزب العمل أو حزب الليكود، والرئيسين المصريين أنوار السادات وحسني مبارك، وحزب الكتائب اللبنانية، وصولا في النهاية إلى ياسر عرفات، الذي كان يتزعم منظمة التحرير الفلسطينية. تعمق المؤلف في دراسة السجلات الرسمية الإسرائيلية، والمصرية والأمريكية والفلسطينية وغيرها من أولئك الذين شاركوا في الحروب والمبادرات والجهود الدبلوماسية في منطقة الشرق الأوسط. بذل المؤلف أيضا قصارى جهده من أجل الاطلاع على أرشيف مراكز البحوث والدراسات التي تتضمن رؤى وروايات معاصرة للأحداث، إضافة إلى محاضر الاجتماعات والبيانات والتصاريح الرسمية والتي تقدم للقارئ القصة الكامنة وراء القصة المعلنة للأحداث التي جدت في المنطقة خلال الأربعة عقود الماضية. لعل أهم ما تضمنه الكتاب من فصول مشوقة، تلك التي تطرق فيها المؤلف إلى النقاشات الداخلية التي دارت في مجلس الوزراء الإسرائيلي، الذي يعمد أحيانا إلى وضع قناع دبلوماسي من أجل المناورات في الوقت الذي يتمسك فيه برفض التخلي عن السيادة على الأراضي الفلسطينية أو الاعتراف بحق الشعب الفلسطيني في الوجود. ومن الأجزاء المشوقة في الكتاب أيضا النقاشات التي دارت بين الرئيس الأمريكي جيمي كارتر ومساعديه، والإحباط الذي لحق بمختلف وزراء الخارجية والرئيس المصري أنور السادات ،والطريقة الفظة التي تعامل بها رئيس الوزراء الإسرائيلي آرييل شارون مع مختلف المبعوثين الأمريكيين الذين برهنوا على خضوعهم وإذعانهم لمواقفه المتشددة، إضافة إلى سعي رئيس الوزراء الإسرائيلي الأسبق مناحم بيجن إلى تصوير نفسه في البداية على أنه منقذ المسيحيين في لبنان قبل أن ينقلب عليهم عندما رفضوا التوقيع على اتفاقية للسلام وفق الشروط الإسرائيلية. يتطرق الكاتب أيضا في هذه الأجزاء المشوقة إلى تواطؤ زعيم الكتائب اللبنانية مع الإسرائيليين من أجل إنهاء الوجود الفلسطيني في لبنان وأمثلة عن الإحباط الذي شعر به الرئيس الأمريكي جيمي كارتر ورونالد ريجان، ووزيرا الخارجية جورج شولتز وجيميس بيكر في تعاملهم مع الإسرائيليين. يتضح من خلال هذه الفصول، الإنكار تام للحقوق الفلسطينية وحالة من الشلل الذاتي، التي تطغى على صناع القرارات السياسية الأمريكية في مواجهة سياسة التشدد الإسرائيلية، ذلك أن الإدارات الأمريكية المتعاقبة ظلت تخاف من التداعيات السياسية الداخلية التي قد تنجم عن ممارسة أي ضغوط على إسرائيل. يتكرر هذا السيناريو كثيرا خلال العقود الماضية، الأمر الذي جعل كبار الساسة الأمريكيين يضيقون ذرعا بالساسة الإسرائيليين وسياساتهم المتشددة والرافضة لمنح أي حقوق وطنية مشروعة للشعب الفلسطيني. ظل هؤلاء الساسة الأمريكيون يتراجعون عن أي مواجهات لأن مستشاريهم يحذرونهم من العواقب السياسية التي قد تنجم عن مثل تلك الضغوط. لم نجد في الكتاب الذي ألفه آنزيسكا أي أمثلة عن شخصيات «تحلت بالشجاعة». على سبيل المثال، استهل جيمي كارتر فترته الرئاسية بتعهده بإيجاد «وطن للشعب الفلسطيني. تماشيا مع التزام إدارته بقضايا حقوق الإنسان فقد تأثر جيمي كارتر بمعاناة اللاجئين الفلسطينيين في المنفى أو أولئك الذين يعيشون تحت الاحتلال الإسرائيلي الجائر. لقد تبنى الرئيس الأمريكي الأسبق جيمي كارتر مقاربة ترمي إلى تحقيق هذا الهدف، تقوم على عقد مؤتمر دولي متعدد الأطراف من أجل إنهاء الصراع بين العرب وإسرائيل. لقد منيت جهود جيمي كارتر في نهاية المطاف بالفشل بسبب رفض إسرائيل المشاركة في أي مؤتمر أو منتدى من هذا القبيل؛ لأن ذلك من شأنه أن يقوض سيادة إسرائيل المزعومة على الأراضي الفلسطينية، إضافة إلى إصرار السادات على إبرام اتفاق بين إسرائيل ومصر. لاننسى أيضا أن الرئيس جيمي كارتر قد واجه أيضا ضغوط الجماعات اليهودية في الولايات المتحدة الأمريكية، الأمر الذي خلق ما يكفي من الاستياء في صلب الإدارة الأمريكية ودفع سلطات البيت الأبيض إلى التراجع عن الضغط على إسرائيل كي تتخلى عن الأراضي أو الحقوق السياسية للفلسطينيين. في نهاية المطاف، خضع جيمي كارتر واكتفى بعقد معاهدة منفصلة كامب ديفيد للسلام بين إسرائيل ومصر، كما وعد فقط بتنظيم مفاوضات ونقاشات مستقبلية على أساس خطة غامضة لتحقيق «الحكم الذاتي» الفلسطيني، وهو ما يعني في القاموس السياسي الإسرائيلي أن الفلسطينيين يمكنهم أن يديروا شؤون الناس، من دون أن يكون لهم أي سلطة على الأراضي. يخلص المؤلف إلى القول، بأن السادات قد حصل في كامب ديفيد على شبه جزيرة سيناء، فيما حصل مناحم بيجن على الضفة الغربية، بعد أن أمنت إسرائيل حدودها الجديدة، وجد مناحم بيجن نفسه الحرية كي يسعى إلى «محو» منظمة التحرير الفلسطينية والقضاء على وجودها في لبنان. خلال الأربعة عقود الموالية، شهدت منطقة الشرق الأوسط الغزو الإسرائيلي السافر واحتلال لبنان (مرفقًا بالقصف الجوي المدمر للبنان والمجازر التي ارتكبت في مخيمين للاجئين الفلسطينيين في صبرا وشاتيلا(، إضافة إلى اندلاع انتفاضتين واستمرار فشل جهود السلام الأمريكية. خلال هذه الفترة الطويلة، ظلت الولايات المتحدة تتوارى مدعية حرصها على تسوية الصراع غير أنها ظلت ترفض في الوقت نفسه ممارسة أي ضغوط على إسرائيل بما يساهم في تحقيق هذا الهدف. يقول المؤلف في كتابه إن الإسرائيليين ظلوا خلال هذه الفترة الطويلة يناورون ويبدون موافقتهم المزعومة على إجراء مفاوضات مع التمسك بكامل سيادتهم على الأراضي المحتلة و«الحق الإلهي» في الاستيطان في فلسطين. وظل الإسرائيليون يرفضون مناقشة مثل هذه المواضيع والقضايا، كما ظلوا في تصريحاتهم العلنية يوبخون محاوريهم الأمريكيين ويؤنبونهم على استخدام عبارة «الأراضي المحتلة، ويشددون على ضرورة استخدام عبارة «يهودا والسامرة»، كما أنهم ظلوا يرفضون أيضا استخدام عبارة «الشعب الفلسطيني» ويستعيضون عنها بعبارة «السكان العرب». ونتيجة للسياسات الإسرائيلية المتشددة والمواقف الأمريكية المتواطئة والضعيفة اتسع نطاق الاحتلال الإسرائيلي للأراضي الفلسطينية. في سنة 1977، كان يوجد بين خمسة آلاف وثمانية آلاف مستوطن يهودي في الضفة الغربية، وارتفع عدد المستوطنين إلى مائة ألف في سنة 1992 ليصل اليوم إلى 600 مستوطن يهودي في الضفة الغربية. رغم الحماس الكبير والنشوة المفرطة التي رافقت التوقيع في سنة 1993 على اتفاقيات أوسلو فإن المؤلف يرصد في كتابه أوجه الشبه بين ما قدمه مسار أوسلو للفلسطينيين وما فعله مناحم بيجن بالفلسطينيين قبل خمس عشرة سنة قبل ذلك. أما الحكم الذاتي المزعوم الذي حصل عليه الفلسطينيون في إطار اتفاقيات أوسلو فقد تم إفراغه من محتواه بسبب إصرار إسرائيل على الاحتفاظ بسيطرتها على الأرض والموارد والأمن والحدود. على غرار الاقتراح الذي طرحه مناحم بيجن في مفاوضات كامب ديفيد فإن الفلسطينيين لم يحصلوا على أي سيادة أو دولة حقيقية مستقلة وقابلة للحياة. يذكر المؤلف عديدًا من الشخصيات الفلسطينية المرموقة التي طالبت ياسر عرفات بعدم التسرع للتوقيع على ما اعتبروه «اتفاقا ينطوي على الكثير من الثغرات». ظل مناحم بيجن يرفض بشدة أي حديث عن إقامة الدولة الفلسطينية في نفس الوقت الذي كان يتصنع الطيبة ويتحدث عن توسيع نطاق حقوق «السكان العرب في يهودا والسامرة» والذين كان يعتبرهم مجرد «أقلية» تعيش في إسرائيل الكبرى. استدل المؤلف بقول مناحم بيجن: «ما العيب في أن تعيش أغلبية يهودية مع أقلية عربية في كنف السلام والكرامة الإنسانية والمساواة في الحقوق؟». ها نحن اليوم قد طوينا أربعين سنة منذ إبرام معاهدة كامب ديفيد للسلام بين مصر وإسرائيل حتى أدركنا في سنة 2018 أنه لم يعد حلم الفلسطينيين في إقامة دولتهم المستقلة فقط غير قابل للتحقيق على أرض الواقع. فقد أصبح عدد من الفلسطينيين يطالبون بإقامة دولة واحدة، وهم بذلك يردون على مناحم بنفس كلامه عندما تساءل: «ما العيب في ذلك؟». وهو ما تواجهه إسرائيل اليوم بطبيعة الحال ذلك أن تلك الأقلية العربية أصبحت اليوم أغلبية وما على الإسرائيليين إلا أن يلوموا أنفسهم لأنهم هم الذين حفروا هذا الجب لأنفسهم. عبثا حاولت إسرائيل محو فلسطين غير أنها خلقت واقعا جديدًا.
مشاركة :