التصعيد الذي تتبناه روسيا في مواجهة إسرائيل بشأن إسقاط الطائرة "إل-20" قرب اللاذقية ليس أكثر من قنبلة دخان. جوهر التنسيق العملاني وأسس العلاقة بين الجانبين ليسا هنا، بل هناك على الحدود بين سوريا والجولان المحتلة. إعلان روسيا عن ابتعاد الميليشيات التابعة لإيران لمسافة 140 كلم عن الحدود مع الجولان يفوق في الأهمية بالنسبة لروسيا الإعلان عن التوصل إلى اتفاق مع تركيا بشأن إدلب. اتفاق إدلب خصم من رصيد الروس عند الغرب، واتفاق الجولان أعاد بناء الرصيد إلى ما كان عليه. لم يكن الإسرائيليون مرتاحين تماما بعد اتفاق إدلب. ليست لذلك علاقة بالمدنيين السوريين أو بالجماعات الإرهابية وغير الإرهابية المتمركزة في إدلب، ولا التبعات الجيوسياسية المترتبة لاحقا على الاتفاق. كل ذلك لا يهم إسرائيل طالما أن الاتفاق لا يتعلق بأعمدة الحل الرئيسية في سوريا، التي يبدو أنها قامت على حماية مصالح إسرائيل أولا. المسألة هنا متعلقة أساسا بإيران. اتفاق إدلب هو هزيمة مباشرة للنفوذ الإيراني في سوريا. في لحظة الجد، وجدت إيران نفسها تقف وحيدة. التفاهمات الروسية–التركية بشأن إدلب وضعت قواعد جديدة. هذه القواعد تبنى على فلسفة "البعد الواحد" في إجمالي القدرة الإيرانية في سوريا. منذ بداية الصراع تفرعت هذه القدرة إلى ثلاثة محاور كما يلي: * القدرة السياسية: التي تمثلت دائما في فرعين هما مدى النفوذ غير المحدود الذي تتمتع به إيران على النظام السوري، وعلى الرئيس بشار الأسد شخصيا، ثم لاحقا قوة التأثير السياسي التي اكتسبتها منذ إنشاء منظومة أستانة، ومناطق خفض التصعيد. * القدرة العسكرية: المتمثلة في قوات الحرس الثوري وميليشيات حزب الله اللبناني وميليشيات عراقية وأفغانية وباكستانية، إلى جانب ميليشيا الدفاع الوطني السوري، التي تعمل كقوات رديفة للجيش السوري، ولو كان نفوذها على هذه الميليشيات ضئيلا نظرا لرفض الأسد مساعي إيران لتحويلها إلى "حزب الله آخر" في سوريا. * القدرة الأيديولوجية: وهذه تنبع من نفوذ إيران وتأثيرها العقائدي والطائفي القادر على تغيير ديموغرافية المجتمعات المحلية في المدن والقرى والبلدات التي يبسط النظام سيطرته عليها، من أجل تحويلها إلى حاضنة اجتماعية وقاعدة نفوذ طويل الأمد وغير مرتبط ببقاء هذا النظام أو رحيله. ما تقوم به روسيا اليوم هو محاولة الإبقاء على محور القوة العسكرية لإيران في سوريا، دون أن تكون لديها القدرات التي تؤهلها لاستمرار قوتها العقائدية أو السياسية. ثمة عملية تقسيم مهام واضحة بين النظام السوري والروس لتنفيذ هذه المعادلة الصعبة دون خسارة إيران كحليفة استراتيجية لدمشق. مهمة النظام السوري هنا تنبع من قدرته على مقاومة توسيع شبكة المراقد والمزارات الشيعية التي تحاول إيران تغطية سوريا بها، ومن ثم حصر نقاط تواجد الميليشيات الشيعية في أماكن محددة، وقصر هذا النفوذ الأيديولوجي على دمشق ومحيطها إن أمكن. المحور السياسي تُرك لروسيا. إذا كانت روسيا مازالت بحاجة إلى ميليشيات إيران، التي تمثل عنصرا حاسما كقوة برية رئيسية مساندة للجيش، فإنها لم تعد بحاجة إليها سياسيا بعدما اقتربت من حسم الحرب بأكملها لصالح الأسد. روسيا تستخدم الميليشيات التابعة لإيران لكي يربح الأسد المعركة. الأسد وحده، وليس إيران أيضا! اتفاق إدلب يجمع كل هذه العناصر التي باتت تشكل سياسة روسيا تجاه إيران معا. تم إخراج الإيرانيين من التفاهمات السياسية التي جرت في سوتشي بين الروس والأتراك، وفي نفس الوقت استُبعد أي تواجد إيراني في المنطقة، كان من الممكن أن يشكل خطرا طائفيا وديموغرافيا بعيد المدى على مناطق تسكنها أغلبية سنية، إلى جانب العلويين السوريين في محافظات الساحل المجاورة، أو العلويين الاتراك على الجانب الآخر من الحدود. الإعلان عن الاتفاق على إبعاد هذه الميليشيات أيضا عن الحدود مع الجولان المحتل يشكل ضربة مزدوجة لنفوذ إيران في سوريا. خسرت إيران كل مساعيها التي استمرت لأعوام من الاستثمار العسكري و"المدني" بهدف التمدد باتجاه الحدود الشمالية والجنوبية في أسبوعين فقط. الهدوء الإيراني يعني شيئا واحدا، هو أن طهران ليس لديها ما تعول عليه خارج دائرة النفوذ الروسي في سوريا. العقوبات غير المسبوقة التي تتبناها إدارة الرئيس الأميركي دونالد ترامب ضد إيران خلقت معادلة جديدة في علاقة الإيرانيين والروس في سوريا. الواقع الحالي بات قائما على حقيقة أن العقوبات الأميركية على إيران تتناسب طرديا مع "عقوبات" روسية مماثلة على الأراضي السورية. هذا يعني أن تشديد واشنطن لحصار إيران يدفع الإيرانيين للتقارب أكثر مع الروس، ويقلص خياراتهم الأخرى. ما يقوم به الرئيس الروسي فلاديمير بوتين اليوم هو ببساطة توظيف هذا الشعور بغياب الأمان لدى إيران، وتحويل الأزمة التي تمر بها إلى فرصة. هذه الفرصة، من وجهة نظره، تعني أن الوقت قد حان لتوظيف سياسة خنق التمدد الإيراني، التي تتبناها روسيا اليوم، من أجل بناء توافق جديد مع الولايات المتحدة على شروط المرحلة المقبلة في سوريا. يدرك بوتين أن الانتقال لمرحلة إعادة اللاجئين إلى سوريا وإعادة الإعمار والحل السياسي صار مرهونا عند الغرب بمدى التراجع الذي يصيب نفوذ إيران أولا. تحول هذه المقاربة إيران إلى عبء على ظهر روسيا تبطئ حركتها وتقف حائلا أمام قدرتها على المناورة للوصول إلى تسوية نهائية تضمن مصالح النظام. قد يكون من المبالغة قبل عام من الآن القول إن إسرائيل بدأت تتحول، بالنسبة لبوتين، إلى حليف أقرب إليه من إيران، لكن اليوم بات منطقيا إدراك أن إسرائيل تمثل لروسيا مخرجا جاهزا كلما وجدت تفاهماتها مع الغرب أمام طريق مسدود. هذه المقاربة نابعة من أن مصالح الجانبين في سوريا باتت مرتبطة عضويا. روسيا تكافئ إسرائيل على تمسكها ببقاء الأسد- وهو ما أكده رئيس الوزراء ووزير الخارجية القطري السابق الشيخ حمد بن جاسم آل ثاني في مقابلة أجريت معه مؤخرا- وإسرائيل تكافئ روسيا في المقابل بتخفيف العبء الإيراني عنها عبر ضرباتها التي لا تتوقف على الأهداف الإيرانية في سوريا. قد تكون الرؤية ضبابية الآن، لكن عندما ينقشع دخان القنبلة التي ألقتها روسيا على المشهد بعد سقوط طائرتها بالقرب من الساحل السوري، فسيتضح أن الحلول الحاسمة كانت ترسم في مكان آخر بعيدا تماما عن المكان الذي أسقطت فيه الطائرة.
مشاركة :