ليس في محله حسبان الجولة الأخيرة من الرسوم على الصين خطوة جديدة «ترامبية» لتشتيت الانتباه عنه في وقت يلتف الحبل القضائي أكثر فأكثر حول رقبته. وليست الرسوم الجديدة خطوة متهورة ومتسرعة صادرة عن إدارة ترامب فحسب، بل هي تنذر بأمر أخطر وأثره أفدح: إرساء العلاقات الاقتصادية والسياسية بين أميركا والصين على معايير جديدة. والخطوة الأخيرة هي أقرب إلى حرب باردة مما هي إلى حرب تجارية. ويؤيد تغيير العلاقات مع الصين مروحة واسعة من الأميركيين على اليسار واليمين، على حد سواء. ولا شك في أن ترامب شاغله الهوسي هو العجز التجاري الأميركي – الصيني، لكنه مولع بإبرام الصفقات وكان في وسع الصين التنازل قليلاً ليحرز مكاسب شخصية وينتهج نهجاً أكثر اعتدالاً. لكن الصقور الاقتصاديين في إدارته، مثل مستشار الرئيس للشؤون التجارية، بيتر نافارو، وروبرت لايتهيزر، ممثل أميركا التجاري، يرون أن مصلحة الولايات المتحدة القومية على الأمد الطويل تقتضي الانفصال الاقتصادي عن الصين. ويوافقهم الرأي كثيرون في البنتاغون، وبعض الفصائل العمالية في اليسار التقدمي. وشطر راجح من هؤلاء سيكون في مواقع السلطة بعد رحيل ترامب. ومشروعهم مختلف، وهم يجمعون على أن بلادهم والصين تخوضان منافسة استراتيجية طويلة الأمد، ويترتب على المنافسة هذه عدم الفصل اليوم بين السياسات التجارية وسياسات الأمن القومي. وهذا انعطاف كبير في عالم الأعمال المعولم. والصقور الاقتصاديون لا يحبذون مديري الشركات المتعددة الجنسية الذين يشكون من آثار جولة الرسوم الأخيرة الواسعة النطاق، ومن تسببها في ضغط تضخمي جديد أو حملهم على رفع الأسعار. ويرى الصقور هؤلاء أن الشركات هذه خائنة باعت نفسها مقابل مكاسب قصيرة الأمد في بلد لا تجمعه بأميركا القيم الغربية المشتركة، وأنها (الشركات هذه) ستسمح للصين عاجلاً أم آجلاً بحصة مساوية في السوق. وغلبت كفة المتطرفين هؤلاء في السياسة الأميركية. ولازمة هؤلاء الصقور هي التنديد بسرقة الصين الحقوق الفكرية، وانتهاك حقوق الإنسان، والعدوان في بحر الصين الجنوبي. فهذه اللازمة تسوغ موقفهم. وكثير منهم يدور كلامه على القوة الصينية المراجعة على نحو ما كان الاتحاد السوفياتي. وثمة مبالغة في هذه الرؤية ولكن من اليسير الدفاع عنها عوض الدفاع عن الاقتصاد المعولم أمام عامة الأميركيين القلقين أكثر فأكثر من سرقة الصين أو الروبوتات المصنوعة فيها، فرص العمل منهم. والتزم الصقور نهجاً ذكياً في صوغ الرسوم صوغاً يقلص أثرها على المستهلكين، ويقتص من الشركات التي نقلت أبرز حلقات سلسلة الإنتاج والتوزيع إلى الصين، على غرار صانع السفن «كوالكوم»، وانتهى به الأمر إلى الوقوف على الضفة النقيض من القومية في البلدين (وكلاهما يرتاب في التعامل معه)، أو شركات تكنولوجية مثل مجموعة سيسكو التي لم تكلل مساعيها بالنجاح لإعفاء أجهزة التوجيه الخاصة بها، وهي تستخدم في الصين كما في أميركا وأوروبا، من الرسوم. وجلي أن الشركات كلها لن تعاني سواسية أو على قدر واحد من الحرب الباردة الأميركية – الصينية. وسيكون في مقدور شركات الاستهلاك التقليدي - مثل ستاربكس أو وولمرت، أن تعمل في السوق الصينية أكثر من الشركات العاملة في مسائل استراتيجية مثل رسم الخرائط أو السيارات المستقلة ذاتياً. ولا شك في أن خيارات عسيرة تنتظر «آبل» وفايسبوك ومايكروسوفت وغوغل وغيرها من الشركات الأميركية المتعددة الجنسية العاملة في الصين، إذا ما تصاعدت وتيرة الحرب التجارية وانزلقت إلى حرب باردة. ففي مثل هذه الحرب، لا يسعهم إغفال الاعتبارات القومية في الدول التي يعملون فيها. ولا شك في أن آثار الرسوم الأميركية ستظهر في الصين أول ما تظهر. فاقتصاد البلد هذا لا يزال وثيق الارتباط بالتصدير أكثر من نظيره في الولايات المتحدة. ولكن يترتب على سياسات ترامب، على الأمدين المتوسط والطويل، سعي الشركات الأميركية إلى اكتفاء ذاتي في تمويل سلسلة الإنتاج والتوزيع. وعلى المستويين السياسي واللوجيستي، يتعذر على أميركا التحول إلى قلعة موصدة الأبواب، مكتفية ذاتياً. لذا، على إدارة ترامب مد الجسور مع الشركاء التجاريين في أماكن مثل أوروبا وغيرها إذا أرادت التزام سياسة صناعية. أما الشركات الأميركية فهي تواجه تحديات أكبر، وهي تحديات وجودية. فما معنى أن تطلق شركة مثل غوغل محرك بحث في الصين خاضعاً لمقص الرقيب، في وقت ترفض الشركة الأم، ألفابت، أن يقدم مديرها التنفيذي، شهادته أمام لجنة مجلس الشيوخ الخاصة بالتحقيق في تدخل روسيا في منابر الشركات الأميركية التكنولوجية. وهل في وسع قادة الشركات أن يسموا على السياسة؟ وإلى وقت قريب، حسبوا أن في متناولهم مثل هذا النأي عن السياسة، ولكن اليوم هذا أقرب إلى التمني منه إلى واقع الحال. * محللة اقتصادية، عن «فايننشل تايمز» البريطانية، 23/8/2018، إعداد منال نحاس
مشاركة :