المملكة العربية السعودية التي قرّرت الردّ بصرامة على أي تدخّل في شؤونها الداخلية وعدم القبول بأي انتقادات غير مؤسسة توجّه لسياساتها، بصدد فرض توجهّها الجديد على شركاء دوليين لها وإرغامهم على التسليم بمعادلة ضمان المصالح مقابل الندية والاحترام المتبادل. نيويورك - توافقت السعودية وألمانيا على إنهاء خلافهما الدبلوماسي وإعادة الحرارة إلى علاقتهما التي شهدت حالة من البرود استمرت منذ شهر نوفمبر من العام الماضي، حين قرّرت المملكة سحب سفيرها من ألمانيا ردّا على تصريح لوزير الخارجية الألماني آنذاك زيغمار غابرييل رأت الرياض أنّه يتضمّن تجنّيا عليها. وقالت مصادر دبلوماسية عربية وغربية إنّ الاجتماع الذي جمع في نيويورك وزير الخارجية السعودي عادل الجبير بنظيره الألماني هايكو ماس على هامش اجتماعات الجمعية العمومية للأمم المتحدة، جاء تتويجا لمساع ألمانية تواصلت بهدوء على مدى الأشهر الماضية لأجل التوصّل إلى مصالحة مع السعودية حماية لمصالح حيوية معها. وقال ماس عقب اللقاء إنّ “علاقاتنا شهدت خلال الأشهر الماضية خلافات ناجمة عن سوء فهم، تتناقض بشدّة مع العلاقات القوية والاستراتيجية التي تربط بيننا، ونحن نأسف حقا لذلك”. واعتبرت دوائر إعلامية ودبلوماسية أن خطاب الوزير الألماني بمثابة اعتذار للسعودية عما بدر من وزير الخارجية السابق غابرييل حين لمّح إلى اتّهامه المملكة باحتجاز رئيس الوزراء اللبناني سعد الحريري وإرغامه على تقديم استقالته. وأشار مراقبون إلى أنّ الخطوة الألمانية بقدر ما كشفت عن حرص ألمانيا مثلها مثل العديد من القوى الدولية الأخرى، على الحفاظ على علاقاتها بالسعودية ذات الوزن المالي والاقتصادي الكبير، وذات الدور السياسي والدبلوماسي المتزايد في محيطها الإقليمي والدولي، فقد كشفت أيضا عن فاعلية التوجّه السعودي الجديد نحو التعامل بصرامة مع التدخلات في شؤونها الداخلية، والانتقادات غير المؤسّسة لسياساتها، مهما كان مصدرها، وهو التوجّه ذاته الذي تجلّى في الردّ السعودي العاصف على اتهامات كندية للرياض باعتقال ناشطين في مجال حقوق الإنسان. وخلال الأيام الماضية بدا أن الخلاف السعودي الكندي يسلك ذات مسار الخلاف بين الرياض وبرلين، إذ أظهرت الخارجية الكندية قدرا كبيرا من اللين وأصدرت إشارات واضحة للسعودية بالرغبة في مصالحتها. وجمّدت السعودية في أغسطس الماضي التجارة مع كندا وأوقفت واردات الحبوب الكندية وطردت السفير الكندي وأمرت جميع الطلبة السعوديين في كندا بالعودة إلى الوطن بعد أن دعت أوتاوا إلى الإفراج “فورا” عن أشخاص تحتجزهم السلطات السعودية، وتقول إنّ عليهم ملفات قضائية موثّقة بارتكابهم لتجاوزات على قوانين البلاد، بينما وصفتهم الخارجية الكندية بالنشطاء في مجال حقوق الإنسان. السعودية لا تخسر شيئا يذكر بتراجع علاقاتها مع هذه الدولة أو تلك حيث يوجد دائما منافسون مستعدون لملء الفراغ وقالت كريستيا فريلاند وزيرة الخارجية الكندية، التي تحمّلها أطراف كندية بشكل مباشر مسؤولية تفجير الأزمة مع السعودية، إنها تأمل بلقاء نظيرها السعودي عادل الجبير الأسبوع الجاري على هامش اجتماعات الجمعية العامة للأمم المتحدة لبحث الخلاف بين الرياض وأوتاوا. وفي نموذج ثالث عن حرص الدول الغربية على الحفاظ على علاقاتها بالسعودية، عادت إسبانيا مؤخّرا عن قرار لها بوقف صفقة بيع قنابل موجّهة بالليزر بقيمة 9.2 مليون يورو للسعودية، وذلك “حفاظا على علاقتها الاستراتيجية مع الرياض وتفاديا لأزمة مفتوحة شبيهة بالأزمة الكندية السعودية”. ولا تنجح الدول الغربية حين تنشب خلافات بينها وبين السعودية، في توحيد مواقفها من المملكة نظرا للطبيعة التنافسية في ما بين تلك الدول، ما يجعل السعودية لا تخسر شيئا مهمّا حين تتراجع علاقاتها مع هذه الدولة أو تلك، إذ يوجد دائما منافسون مستعدّون لملء الفراغ الذي يتركه الآخرون ولتعظيم مصالحهم مع الرياض، خصوصا وأن شبكة العلاقات السعودية تمتدّ إلى أغلب دول العالم وقواه الكبرى والصاعدة، من الولايات المتحدة إلى الصين إلى روسيا وفرنسا والمملكة المتحدة وغيرها. وعلى مدار الأشهر التي أعقبت تصريحات وزير الخارجية الألماني السابق بشأن السعودية، لم تبد حكومة المستشارة أنجيلا ميركل رضاها عمّا آلت إليه علاقات بلادها مع الرياض. وقالت متحدّثة باسم الحكومة الألمانية في وقت سابق إنّ هناك اتصالات متنوعة في كافة الاتجاهات لتطويق الخلاف مع السعودية. وأخيرا توّجت تلك الجهود الألمانية للمصالحة مع السعودية بموافقة الأخيرة على إعادة سفيرها إلى برلين. واتفق وزير الخارجية الألماني هايكو ماس ونظيره السعودي عادل الجبير خلال لقائهما في نيويورك على عودة السفير، كما وجّه الجبير دعوة لماس لزيارة المملكة “في أقرب فرصة للبدء بمرحلة جديدة من التعاون الوثيق على كافة الأصعدة بما يحقق مصلحة البلدين والشعبين”. وعلّق ماس بالقول “كان من الممكن أن نكون أكثر وضوحا في اتصالاتنا لتجنب سوء التفاهم بين ألمانيا والمملكة العربية السعودية”. ورحبت الرياض بدورها بتصريح وزير الخارجية الألماني، وأكدت في بيان لها نشرته وكالة الأنباء السعودية الرسمية “واس” على “عمق العلاقات الاستراتيجية مع جمهورية ألمانيا الاتحادية كونها علاقات تاريخية ومهمة لكلا البلدين”. وشدد البيان على “أن المملكة وألمانيا دولتان لهما دور مهم في تحقيق الأمن والاستقرار في المنطقة والعالم، بالإضافة إلى دورهما الرئيسي في الاقتصاد العالمي”.
مشاركة :