لا تعترف السينما بهذا التحقيب أو التصنيف السنوي حول الحصيلة المنجزة خلال عام، وينطبق ذلك بصورة خاصة على السينما الكردية التي تعاني صعوبات انتاجية لا مجال للخوض فيها هنا، فثمة مشاريع تؤجل كما حدث في كردستان العراق بعد تهديدات «داعش» منتصف السنة المنصرمة، وأخرى تلغى أو «توضع على الرف» في انتظار ظروف ملائمة. وفي معزل عن هذا الجدل حول نسبة الفيلم الى سنة معينة، فإن فيلم «السنونو» لمانو خليل دخل الفيلموغرافيا الكردية كآخر فيلم أنجز خلال السنة المنصرمة، على أن يخوض رحلة المهرجانات والعروض مع بداية السنة الجديدة. مانو صاحب «أحلام ملونة» و «دافيد تولهلدان»، و «الأنفال، باسم الله والبعث وصدام»، و «طعم العسل»، الذي واصل انتزاع الجوائز خلال السنة الفائتة، يتناول في «السنونو» حكاية المنافي الكردية عبر قصة فتاة سويسريه من أب كردي، كانت تعتقد أنه مات. لكن بعد 28 سنه يصلها خبر انه على قيد الحياة، فتسافر إلى كردستان بحثاً عن الأب الغائب، لتكون هذه الرحلة ذريعة لاكتشاف بلدها المجهول بحيث لم تعد مسألة العثور على الأب ذات أهمية في مقابل العثور على وطن ذي لغة وجغرافيا وتقاليد مختلفة عن بلدها الأوروبي. تداعيات اللجوء ثيمة تداعيات اللجوء تتكرر في فيلم هشام زمان «رسالة الى الملك»، إذ يروي صاحب «قبل سقوط الثلج» حكاية خمسة أشخاص يقطنون مركزاً لإيواء اللاجئين في النرويج وسط رتابة قاتلة في انتظار الحصول على الإقامة، وفي غضون ذلك يتاح لهم القيام برحلة الى العاصمة أوسلو حيث تتداخل لحظات الاكتشاف مع المعاناة وصولاً إلى الحب والسعي الى الانتقام، وما يجمع بين قصص هؤلاء رسالة كتبها العجوز ميرزا، ويريد إيصالها إلى ملك النروج عبر مفارقة مفعمة بروح السخرية والتهكم. وإذا كان الغائب الأبرز خلال السنة المنصرمة هو بهمن قبادي، الذي اكتفى بمساهمة جماعية مع مخرجين عالميين كبار مثل أمير كوستوريتسا وعاموس غيتاي وغييرمو أرياغا لإنجاز شريط «كلمات مع الآلهة»، والمنهمك حالياً في الإعداد لتصوير فيلمه الروائي السادس، فإن شقيقه باتين قبادي استطاع أن يعوض هذا الغياب عبر تجربة روائية أولى له بعنوان «مردان» بعد عدد من الأفلام القصيرة. يروي الفيلم حكاية اختفاء أحد عناصر قوات البشمركة الكردية، وما يستتبع ذلك من ذكريات وتداعيات وجدانية لدى المحيطين به لنكون إزاء شريط يروي محنة الفقد ويستحضر ذكريات الطفولة ضمن توليفة سينمائية جذابة تكرس اسماً سينمائياً جديداً كان قد لفت الأنظار إلى موهبته، خصوصاً عبر فيلم «اسأل الريح» الذي نال جوائز عدة. وبعد غياب نحو أربع سنوات، يعود شوكت أمين كوركي عبر فيلم «ذكريات منقوشة على حجر» ليكون الروائي الثالث له بعد «ضربة البداية» و «عبور الغبار». فيلمه الجديد، الذي نال جائزة أفضل فيلم من العالم العربي خلال مهرجان أبو ظبي، يسعى إلى استعادة صور ونقوش وأصوات بعيدة ظلت محفورة في الذاكرة، مثلما هي منقوشة على جدران الزنازين والأقبية والمعتقلات، لترمز إلى حقبة قاسية عاشها الأكراد في ظل حملات الأنفال التي شنّها نظام صدام حسين ضدهم في ثمانينات القرن الماضي. ممرات السجون وقتامة الأجواء وحبال المشانق والبوابات العالية والقضبان الحديدية... هي مفردات ترسم مناخات هذا الفيلم الذي يقتفي دروب العذاب من دون عويل أو دماء عبر سرد يحاكم تاريخاً قلقاً، ويدين حاضراً مثقلاً بعادات وتقاليد تكبح الطموح والأمل. المخرج سهيم عمر خليفة، الذي حظي باحتفاء لافت بفيلمه قبل الأخير «ميسي بغداد»، الذي انتزع 46 جائزة، أثبت مجدداً أنه صياد سينمائي ماهر عبر جديده الروائي القصير «الصياد السيئ» الذي نال، بعد عرضه في مهرجان دبي السينمائي الأخير، جائزة لجنة التحكيم ضمن فئة «المهر القصير»، بعدما نال، كذلك، جائزة أفضل فيلم من مهرجان مونتريال في كندا، وجائزة لجنة التحكيم من مهرجان بلد الوليد في إسبانيا. يتناول الفيلم حكاية الصياد الشاب باهوز الذي يجوب براري كردستان بحثاً عما يصطاده فيرى بالصدفة فتاة تتعرض للاغتصاب ليقوم بإنقاذها ثم يدخل في دوامة من المشاكل التي تسلط الضوء على التقاليد الاجتماعية البالية في كردستان. «كانت ليلة طويلة» هو عنوان الشريط القصير للمخرج كاميران بيتاسي الذي يعود الى منتصف سبعينات القرن الماضي لدى انهيار الثورة الكردية، إذ تضطر امرأة وطفلاها الى اللج ء إلى مخيم على الحدود العراقية- الإيرانية للاجئين الأكراد، بينما زوجها يقاتل في صفوف «البشمركة»، وهناك ستقع تحت رحمة ضابط إيراني، وتقدّم التضحيات لتنجو بنفسها، متأملة بغد أفضل. حسّ مشاكس المخرج هنر سليم لم يقدم جديداً بعد فيلمه «أرضي الحلوة، أرضي الحادة»، لكنه منهمك بالإعداد للبدء بتصوير فيلمه الروائي «بيبي موني» أو «فاتنة المال»، وهو إذ يتحفظ على موضوع فيلمه الجديد، برهنت تجاربه السابقة من «فودكا بالليمون» الى «الكيلومتر صفر» إلى «إن مت، سأقتلك» على الحس السينمائي المشاكس الذي يتمتع به، وتلك اللمسة الكوميدية السوداء الساخرة التي تتخلل قصصه التراجيدية. ويمكن الاشارة في سياق حصيلة العام الفائت الى فيلم «هش» لبالدين أحمد، وكذلك فيلم «كش ملك» الذي يعتمد تقنية الفيديو التركيبي للمخرجين روش عبدالفتاح وإنغريد رولما، وفيلم «الشتاء الأخير»، للمخرج الإيراني سالم صلواتي، وفيلم «شقة النمل» لتوفيق أماني، و «فراشات» لعدنان زندي، وهذه الأفلام الثلاثة الأخيرة، رغم كونها ناطقة بالكردية، إلا انها شاركت باسم إيران في المهرجانات. على صعيد المهرجانات السينمائية، انطلق خلال السنة الفائتة مهرجان أربيل السينمائي في دورته الأولى، وتأسيس هذا المهرجان يعد اعترافاً بالنجاحات التي تحققها السينما الكردية، فيما تأجل مهرجان دهوك السينمائي وكذلك مهرجان «جرا» أو «ضوء» للأفلام الوثائقية في السليمانية، نظراً الى الاوضاع الأمنية في كردستان التي شهدت اضطرابات خلال شهر حزيران (يونيو) الماضي وهو الأمر الذي عرقل، كذلك، حضور السينما الكردية كضيف شرف في مهرجان القاهرة السينمائي الأخير. الحصيلة السينمائية خلال السنة الفائتـــة أظهرت من جديد هموم الأكراد وهواجسهم، وهي لم تكتف، هذه المرة، بجلـــد الذات، واستعادة التواريخ الدامية لشعب لا يملّ البحث عن وطن آمن يستوعب أحلامه وتطلعاته المؤجلة، بل بـــدت جريئة في محاربة الفساد الذي راح يتفــشى في إقليم كردستان الفتي، ورفعت الصوت في وجه تلك العقلية الاجتـــماعية المتزمتة؛ المتمسكة بعادات وتقـــاليد تمثل خطورة على تلك الأحلام، ربـــما تفـــوق السياسات الاقصائية التي سعت على الدوام إلى إخماد الصوت الكــردي. لكن رغم ذلك، تظل السينما هي الوسيلة الأكثر رفعة في التعبــير عن ذلك الصوت المهمش، ولا مبالغة فـــي القول إن ما يصنعه فيلم كـــردي واحـــد مـــن جمـــال وإبداع يعـــادل كل جهود الأحزاب العتيدة، وبهذا المعنى فإن السينما الكردية تحارب، على الدوام، على جبهتين: أن تظهر عدالة قـــضية من جهة، وأن تنشغل، من جهة ثانية، بجماليات خاصة نابعة، تحديداً من تعقيدات تلك القضية ومساراتها الوعرة وحكاياتها التي لا تنتهي!
مشاركة :