من الذي طور الصحافة حقا؟ الصحافيون فئة أنانية ومصابة بالغرور. لذلك يعتقدون أنهم من طوروا المهنة دون سواهم. كان اليهود يسمون جميع من ليسوا يهودا «الأغيار»، أي ليسوا أحدا. الصحافيون هم الصحافة. ليس ذلك صحيحا على الإطلاق. عندما بدأت العمل في هذه المهنة، كانت أحرف الجريدة تجمع على آلة تسمى «الإنترتيب» في حجم نصف غرفة ولها صوت مثل وقع خيول السباق. وقبلها كانت الأحرف تصف يدويا، حرفا حرفا، وفاصلة فاصلة، وشقاء شقاء. أما الطباعة فظلت حتى الستينات على ماكينات ألمانية قديمة، بطيئة، وشكرا للحداد غوتنبرغ، الذي اخترعها على أي حال. كان إنتاج الصحيفة بطيئا وتوزيعها بالتالي محدودا. تغير وضع الصحافة تماما عندما انتقل صف الأحرف من «الإنترتيب» والقصدير وصوت الحوافر إلى آلة طابعة صغيرة لا صوت لها مثل الشعب العربي، وانتقلت الطابعة إلى «الأوفست»، وصار في الإمكان طبع آلاف النسخ في ساعة واحدة. بدأت «الثورة الصحافية» في العالم أوائل القرن التاسع عشر، ليس على أيدي الكتّاب والمحررين بل على أيدي الصناعيين. والحقيقة أن الشيء الوحيد الذي لم يتغير في المهنة هو الجزء الصحافي منها. الآن ونحن نودع عصر «الإنترتيب» والقصدير وما بعد، بعد الحداثة، نشعر بالأسى على رائحة الحبر وعطر الورق. لكن صناعة الصحافة ربحت ملايين القراء الإضافيين، ولم تعد هناك «طبعة أولى» أو أخيرة بل «طبعة» مستمرة من دون طباعة. وانخفضت تكاليف النشر والتوزيع بنسبة خيالية، فلا أطنان ورق ولا مستودعات ولا شاحنات تنقل النسخ في الليالي الباردة. كل ذلك كان عصرا جميلا، ولا يزال كذلك عند الذين عاشوه. أما عند الذين بدأوا القراءة في عصر الإنترنت فيقرأون صحفهم الآن على هواتفهم. وليس من الضروري أن تضيف «الجوالة» لأن الهاتف غير الجوال أصبح قطعة للزينة مثله مثل الآلة الكاتبة التي كانت إلى ثلث قرن رمز التقدم والطليعية. كنت أقرأ في تاريخ الصحافة البريطانية وكيف بلغ توزيع «التايمز» خمسة آلاف نسخة، عندما خطر لي أن هذه المهنة لعب أصحابها الدور الأقل في تطويرها وتقدمها. هذه مهنة تقيم، بالإيجار، عند المهندسين والمخترعين، فتنقل من منزل «الإنترتيب» والقصدير إلى برج الإنترنت والأثير. ومن عصر توزيع الصحف وبيعها في الزمهرير إلى قراءتها في الوثير، والسجع صدفة سعيدة ولكن غير مقصودة.
مشاركة :