الجزائر - رغم الارتدادات القوية التي أحدثتها الأزمة النفطية منذ العام 2014، على التوازنات الكبرى للبلاد وتبعاتها على الجبهتين الاقتصادية والاجتماعية، إلا أن السلطات الجزائرية، تتوجه إلى المزيد من الإمعان في سياسة شراء السلم الاجتماعي، لتمرير استحقاقاتها السياسية وعلى رأسها الانتخابات الرئاسية المنتظرة بعد سبعة أشهر. وشدد الرئيس الجزائري عبدالعزيز بوتفليقة، في اجتماع مجلس الوزراء الذي انعقد مساء الأربعاء، على المضي في حماية الفئات الاجتماعية الهشة، وتخصيص أغلفة مالية مهمة لدعم أسعار المواد الاستهلاكية والتكفل بالخدمات الاجتماعية الصحية. وتكرس هذه الخطوة نكوص السلطة عن خطابها السابق حول التوجه لبناء اقتصاد حقيقي، لتفادي سيناريو الأزمات السابقة والتبعية المفرطة لعائدات النفط. وخصصت الحكومة نحو 18 مليار دولار، لدعم المواد ذات الاستهلاك الواسع، والتكفل بالخدمات الاجتماعية والصحية، في مشروع قانون الموازنة العامة للعام المقبل، الذي خلا من أيّ رسوم أو ضرائب جديدة، أو رفع للأسعار، وذلك في سياق سياسة شراء السلم الاجتماعي، وتمرير المحطات السياسية المقبلة وعلى رأسها الانتخابات الرئاسية. وكان الرئيس بوتفليقة، قد ألغى خلال هذه الصائفة عددا من الرسوم التي أقرتها حكومة أحمد أويحيى، خلال قانون الموازنة التكميلي في شهر يوليو الماضي، بعدما أثارت جدلا واسعا لدى الطبقة السياسية والرأي العام، لارتباطها باستخراج وثائق الهوية، كبطاقة التعريف الوطنية وجواز السفر ورخص السياقة وترقيم المركبات. ورغم استمرار العجز في الحسابات الكبرى للبلاد، خاصة بين المداخيل والنفقات، والمقدرة بنحو 20 مليار دولار، إلا أن السلطة تحاول الاستفادة من توجه أسعار النفط إلى التوازن والاستقرار، وتوظيف الريع النفطي في شراء استقرار الشارع بغية تمرير أجندتها السياسية. ويتنافى ذلك مع خطاباتها المتكررة حول مراجعة السياسة الاجتماعية وتلافي الأعباء الثقيلة المخصصة لهذا المجال. وإذ يعبر الشارع عن ارتياحه لمشروع الموازنة العامة، المقدرة على سعر 50 دولار لبرميل النفط، فإن خبراء ومختصين، اعتبروه وثيقة سياسية لشراء الذمم والبحث عن الاستقرار الاجتماعي، وليس قانونا للمالية يضبط مخططات الاقتصاد والحسابات السنوية. السلطات الجزائرية تنفق خلال العقدين الأخيرين أكثر من ألف مليار دولار، إلا أن نتائج ذلك المبلغ لم تظهر على الأرض وعلق الخبير الاقتصادي والمالي فرحات آيت علي، في منشور له على صفحته الرسمية، قائلا “إن قانون الموازنة العامة يضبط وينظم الحسابات ولا يخلق الثروة أو العوائد، فهو يمكن أن يكون أي شيء إلا قانونا للمالية”، في إشارة إلى الحسابات السياسية التي حملها المشروع، واستعداد الحكومة لتبذير المزيد من المداخيل في سبيل استقرار الشارع. وجاء المشروع مناقضا تماما لتصريحات سابقة أطلقها وزراء حاليون، حول توجه الحكومة إلى مراجعة سياسة الدعم الاجتماعي، وإنشاء لجان مختصة لدراسة الخارطة الاجتماعية للبلاد، من أجل الوصول إلى تنظيم جديد يكفل وصول الدعم المخصص من طرف الدولة إلى مستحقيه الحقيقيين، مقابل الانسحاب التدريجي للخزينة العمومية من دعم المواد ذات الاستهلاك الواسع، على غرار الطاقة والوقود والخبز والحليب. وفصل مشروع قانون الموازنة العامة، في المخصصات الموجهة للمواد الغذائية والطاقة والوقود والصحة والسكن، وهي الأوراق التي تراهن عليها السلطة لشراء الذمم وإسكات الشارع، فضلا عن تفادي إطلاق ضرائب جديدة قد تكون مصدر استفزاز، بعدما غالت الحكومة خلال السنوات الأخيرة، في استنزاف القدرة الشرائية للمواطنين، بدعوى إيجاد مصادر تمويل جديدة تساهم في الحد من عجز الخزينة العمومية. وتذكر مصادر متطابقة أن الجزائر أنفقت خلال العقدين الأخيرين أكثر من ألف مليار دولار، إلا أن نتائج ذلك لم تظهر على الأرض، سواء في مجال تحسين أداء الاقتصاد الوطني، أو تحقيق تنمية محلية مستدامة وتكفّل حقيقي بالخدمات والانشغالات اليومية للسكان، حيث سجلت البلاد عودة الأمراض القديمة، وتدهور التكفّل الصحي، وعدم التحكم في البنى التحتية، ممّا أدى إلى حدوث كوارث حقيقية مع التقلبات الجوية الأخيرة. وساهمت سياسة الريع المنتهجة، في استشراء فظيع للفساد في مختلف مؤسسات الدولة، حيث جعلت رتبة الجزائر في مراتب خطيرة في هذا المجال، وهي الظاهرة التي استنزفت قدرات مالية كبيرة من إمكانيات البلاد، وهزّت سمعتها في المحافل الدولية، ما فاقم من تهرب رأس المال الأجنبي من الاستثمار فيها، بسبب الممارسات البيروقراطية وتغلغل نظام الرشى والعمولات. وكانت المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل قد أكدت خلال زيارتها إلى الجزائر مطلع الشهر الحالي، أن بلادها مستعدة لدعم مساعي الجزائر لتنويع اقتصادها، لافتة إلى أنه يتعين على المجتمع المدني في هذا البلد أن يكون أكثر تفتحا. وتعاني الجزائر من مشكلة الاقتصاد الأحادي الذي يرتكز أساسا على تصدير النفط والغاز. وتعهدت الحكومة مرارا بتقليل الاعتماد على مجال الطاقة وتنويع مصادر الاقتصاد، لكن شيئا من هذا القبيل لم يحدث على أرض الواقع. وكان علي حداد، رئيس أكبر رابطة للشركات الجزائرية، قال في مؤتمر قبل فترة وجيزة، “بلدنا يحتاج إلى مرحلة انتقالية سريعة نحو اقتصاد يعتمد على العلم والإبداع″. ويرى المحامي والناشط الحقوقي مصطفى بوشاشي، أن “النظام الاقتصادي والمالي للبلاد، والتشريعات الموضوعة في هذا السياق، تشجع على تفشي الفساد ونهب المال العام، في ظل حصر تدخل آلة الرقابة والقضاء في الحالات التي يبلغ عنها من داخل المؤسسة المعنية، وليس بناء على تقارير أمنية أو صحافية أو شبهة ما”. وأضاف “كما أن أقصى عقوبات الفساد تتمثل في عشر سنوات سجنا، وهو خيار مفضل لذوي النفوس الضعيفة، فعشر سنوات لا تساوي شيئا إذا قضاها المعني في منصب عمله، بينما عشر سنوات في السجن تمكنه من كسب ثروات طائلة”.
مشاركة :