أعلن أسامة فيصل، وزير الدولة في وزارة الخارجية السودانية، عزم الرئيس عمر حسن البشير، إجراء زيارة إلى مصر قريبا. وأكد أن العمل الخارجي سيرتكز خلال الفترة المقبلة على الدبلوماسية الاقتصادية، وزيادة حجم التبادل التجاري والاستثمار وفتح القنوات للقطاع الخاص مع العالم. وهي رسالة تشير إلى أن الخرطوم قررت المضي نحو تعظيم مصالحها الاقتصادية للحصول على مكاسب سياسية، وليس العكس، ما يحمل رسائل لجهات عدة، تنتظر انضمام السودان للمنظومة التنموية الصاعدة في المنطقة، بعد تقديم ملامح تدحض شكوكا تدور حول تصوراته وتعزز الثقة في نواياه. القاهرة - ترتبط العلاقات بين مصر والسودان بشكل كبير بالتطورات السياسية، ودائما ما تكون رهينة ما يترتب عليها من نتائج، سلبية أو إيجابية، ما جعلها متذبذبة وغير مستقرة. وما إن يتم حل أزمة إلا وتظهر أخرى بعد فترة قليلة. وبين الصعود والهبوط تولّدت قناعات بضرورة تسكين المشكلات المتفجرة، لأن هناك جهات تتعمد توظيفها لخدمة مصالحها. تؤكد التحركات التي ظهرت مؤشراتها في الفترة الماضية أن البناء على المصالح الاقتصادية هو السبيل الوحيد للتخلص من العقد السياسية التي حالت دون تطوير العلاقات المشتركة، والوصول بها إلى برّ الأمن، بما يمنع ظهور الأزمات التقليدية مرة أخرى. جرت في هذا المجال مياه كثيفة، وعقدت اجتماعات في القاهرة وأخرى في الخرطوم بين مسؤولين في البلدين، وكلها ركزت على الأبعاد الاقتصادية الواعدة. وتم استدعاء وإحياء أفكار لمشروعات سابقة طرحت في سبعينات وثمانينات القرن الماضي لتجاوز حساسيات تاريخية، لكن الروافد الناجمة عن التباعد السياسي كانت أقوى وحالت دون تنفيذ الكثير منها. أعاد التفكير بجدية في أهمية المكونات الاقتصادية تصويب الكثير من المسارات السياسية. فمنذ شروع البلدين في توثيق العلاقات على هذه القاعدة مؤخرا لم تطفُ على السطح مشكلات جوهرية، مثل النزاع حول مثلث حلايب وشلاتين وأبورماد الحدودي، واختفت نغمة اتهام السودان بدعم التيار الإسلامي بما يضر بمصالح مصر، وتوارى الحديث عن تسريب عناصر إرهابية ومعدات عسكرية إلى مصر من الجنوب. ضبط العلاقات يدرك السودان أن أكبر مشكلاته تراكم الأزمات وأن حل جزء منها سريعا مسألة مصيرية، قبل أن تنجرف البلاد نحو الهاوية. وبدأت الخرطوم تنتبه إلى هذا الطريق وتتيقن أن تعظيم المصالح الاقتصادية يلزمه ضبط الكثير من أوجه الخلل في الأوراق السياسية التي كانت تؤدي إلى صدامات مع دول مختلفة، في مقدمتها مصر. وتدرك كل من الخرطوم والقاهرة أن الرياح المقبلة في المنطقة ذات مكونات اقتصادية بامتياز. وما حدث بين إثيوبيا وإريتريا، بدعم من الإمارات والسعودية، أحد أهم الاختراقات التي منحت أولوية للمشروعات التنموية لبناء أسس لعلاقات متينة، تؤدي إلى تكوين شبكة من المصالح تمثل حائط صد للكثير من المعوقات السياسية والأمنية. وبدخول جيبوتي والصومال في المنظومة الواعدة، لاحت في الأفق معالم توسيع نطاق أطر التعاون الإقليمي. وعززت نتائج كل القمم التي عقدت في أبوظبي والرياض، بحضور قادة دول في القرن الأفريقي، الركائز التنموية الطموحة والتي يتم عليها بناء علاقات قوية تستطيع مقاومة أي رياح سياسية من هنا أو هناك. القاهرة والخرطوم تملكان نواة لمشروعات اقتصادية طموحة تعطلت بفعل التباينات المتكررة، وخلفت وراءها حساسيات من الصعوبة محوها التقط السودان طرف الخيط في التحركات التي تدور حوله وأفضت إلى تخطي عقبات كان من الصعب تجاوزها بين إثيوبيا وإريتريا والصومال وجيبوتي وإريتريا وجيبوتي، وانتبهت الخرطوم إلى أنها لو بقيت أسيرة لحسابات سياسية ضيقة، أو استمرت في خضوعها لتقديرات أيديولوجية قاصرة، ستعاني من مخاض عسير على أصعدة مختلفة. فبدأت تضاعف من وتيرة انفتاحها على دول الجوار الأفريقي، وتتخلى عن جزء معتبر من التوجهات التي أعاقت تطوير العلاقات معها، في مقدمتها التخفيف مما يمكن وصفه بالازدواجية، والتدخلات في الشؤون الداخلية. وأبدى السودان استعداده للتعاون في المجالات الاقتصادية مع دول كثيرة، وكان من الطبيعي تفعيل الروابط مع مصر، التي قرأت أيضا التحركات الجارية في المنطقة، والتي تغلب عليها القيم الاقتصادية والتنموية، وتجعل منها أداة لإذابة الخلافات السياسية، وتيقنت دوائر كثيرة من ارتفاع حجم الخسائر إذا بقيت التصورات القديمة على حالها. مصدات سياسية وأمنية أخذت قوى كثيرة في العالم تميل ناحية توثيق العلاقات من خلال مشروعات تنموية، بعد أن اهتدت إلى دورها الحيوي في النظام الدولي، ما يضاعف من أهميتها في الفترة المقبلة، وقد تتشكل بموجبها مصالح تتحول إلى مصدات تقاوم الرياح السياسية والأمنية من أي جهة تريد توظيف الصراعات الإقليمية لخدمة أهدافها الخفية. ويعي السودان أن الخارطة التي ترتسم معالمها بالقرب منه أحد شروطها بناء الثقة في نظامه أولا عبر اتخاذ سلسلة من الإجراءات تقود إلى إزالة الشكوك في توجهاته المريبة سابقا، لأنها أدت إلى ترك انطباع يقول إن تقلبات الخرطوم واحدة من أزماتها الهيكلية وعليها التخلص منها. لم تشأ الخرطوم أو القاهرة التخلف عن المجريات الإقليمية، وبدأتا في تنحية الخلافات السياسية لتحل نفسها مع مرور الزمن، خاصة عندما يأتي تطوير العلاقات الاقتصادية بنتائج إيجابية لافتة، تجعل كل طرف من الصعوبة أن يضحي بها عند أي احتكاك سياسي أو مناوشة أمنية، والأهم تحولها إلى عاصم ضد اختراقات أي جهة خارجية. يملك البلدان نواة لمشروعات اقتصادية طموحة تعطلت بفعل التباينات المتكررة، وخلفت وراءها حساسيات من الصعوبة محوها، فعند أي خلاف بسيط تتوقف الاتفاقيات التي اجتهد الطرفان في الوصول إليها دعائيا، ويعود المسؤولون في البلدين إلى تبني معزوفة مثيرة من التراشقات والتجاذبات كفيلة في حينه بوأد أي طموحات أو آمال اقتصادية. التركيز على المشروعات المشتركةالتركيز على المشروعات المشتركة لجوء كل جانب إلى قلب المعادلة، بمعنى منح الأولوية للمكونات الاقتصادية لبناء أواصر سياسية، بات وسيلة مهمة يمكن أن تحقق فوائد على الصعيدين (الاقتصادي والسياسي). الأمر الذي انتبهت له دولة الإمارات مبكرا، وتمكنت من تقديم نماذج جيدة للتدليل على أهمية هذا التوجه في القرن الأفريقي، وتعمل الآن على إزالة الفجوات التي يمكن أن تؤثر على التنمية، بمعنى تهيئة التربة والبيئة والأجواء التي تسمح بالتقدم من دون معوقات رئيسية. توصلت الدولتان إلى أنه لا فائدة من استمرار المناوشات، بينما التطورات تجري بصورة متسارعة في الفناء الخلفي لكليهما، وعمدتا إلى التركيز على المشروعات الاقتصادية المشتركة، والاستفادة من روافدها المتعددة. يقود هذا المنطق لتخفيف الأعباء السياسية عن كاهل مصر، ويغلق إحدى أهم النوافذ المزعجة. وليس خافيا أن النجاح الذي حققته القاهرة على مستوى مكافحة الإرهاب مؤخرا، تزامن مع تطور العلاقات مع دول كثيرة، في مقدمتها السودان، وسد عددا من الأبواب التي كان يتسلل منها إرهابيون وتتسرب منها أسلحة ثقيلة لهم في أماكن تمركزهم بسيناء أو غيرها. ما تحقق من مكتسبات جراء الانحياز إلى بناء علاقات على أسس اقتصادية، جنت منه الخرطوم مكاسب أكبر، ويكفي أن السودان أصبح وسيطا في تسوية بعض المشكلات السياسية في المنطقة (جنوب السودان نموذجا) بعد أن كان عنصرا للإزعاج. وبدأت بعض الدول، مثل الولايات المتحدة الأميركية، تراجع مواقفها حيال العقوبات المفروضة عليه، وهناك أمل بأن تسقط التهم الموجهة للرئيس عمر البشير بموجب طلبه سابقا من قبل المحكمة الجنائية الدولية بعد اتهامه بارتكاب جرائم حرب في إقليم دارفور. تحصد الخرطوم جملة من المكاسب بعدما قامت بتغيير كبير في التوجهات العامة، وخففت من وطأة القضايا التي أثارت حولها الغبار، ما يجعلها تتيقّن أن الاقتصاد مفتاح التغلب على الكثير من الأزمات السياسية، وحجم التطور في هذا المجال مع مصر هو أحد الاختبارات التي تحمل رسائل لدوائر على استعداد لتوجيه المزيد من الاستثمارات إلى السودان.
مشاركة :