جمال عبدالناصر ومعركة تأميم قناة السويس

  • 9/28/2018
  • 00:00
  • 10
  • 0
  • 0
news-picture

كانت مفاجأة كبرى للأمة العربية وللعالم كله لدى إعلان وفاة الزعيم العربي الراحل جمال عبدالناصر في مساء 28 سبتمبر من عام 1970، فقد كانت مصر بل الوطن العربي في وضع حساس لا يقبل فيه غياب الزعيم عن الساحة، صمت رهيب وتساؤلات كثيرة لدى الشعب العربي، وخاصة الشعب المصري الذي كان يعاني منذ عام 1967 آثار النكسة.. كانت تساؤلات الناس.. إلى أين وكيف ولماذا وما هو المصير؟ فقد انتقل جمال عبدالناصر إلى الرفيق الأعلى وسكتت الأصوات وعمّ الحزن كل شارع وبيت، كان يوما حزينا.. لقد مات الزعيم، لحظات صعبة غير متوقعة، لكنها مشيئة الله وقدره.. إنا لله وإنا إليه راجعون. يا سبحان الله، لقد كان عبد الناصر موجودا من الصباح إلى المساء في فندق الهيلتون المطل على نهر النيل يتشاور ويتحاور، ثم عقد القمة العربية مع إخوانه الزعماء العرب بل وودعهم جميعهم في المطار وآخرهم كان أمير الكويت آنذاك الله يرحمه.. بعد ذلك شعر الزعيم ناصر بوعكة صحية فطلب أن ينقلوه إلى بيته بمنشية البكري. قبل تلك اللحظات كان عبدالناصر يقول: «أحمد الله لقد تم الاتفاق مع الإخوة الأردنيين والفلسطينيين على وقف إراقة الدم العربي»، قالها عبدالناصر لقد نجحنا كلنا مجتمعين في ذلك المؤتمر الذي أنقذ شعبنا العربي من توسيع رقعة الاقتتال، كانت مذبحة كبيرة إنها حرب «أيلول الأسود» الدامية. نعم، قالها بلسانه ولكن قلبه كان يعتصر ألما وكانت صحته الثمن. لقد استطاع عبدالناصر في غضون 48 ساعة أن يجمع كل زعماء الأمة العربية في القاهرة لوقف نزيف الدم العربي، فكان الحمل ثقيلا على الزعيم ناصر الذي كان يعاني من مرض السكري وضغط الدم والقلب، ولكن عبدالناصر تحمل كل هذه الأعباء الصحية لكي يحقن الدم العربي فقط لا غير في تلك اللحظات العصيبة. يقول الكاتب إبراهيم الصياد: «كان ناصر اشتراكيا بمعنى الكلمة من الناحية الإنسانية أي يؤمن بعدم استغلال الإنسان لأخيه الإنسان ومن ثم كان انحيازه إلى الفقراء وللأسف فسّر البعض هذا الانحياز بأن عبدالناصر كان شيوعيا، لكن التجارب أكدت أنه لم يكن كذلك، بل كان يؤمن بالتطبيق العربي من خلال ميادين «الكفاية الإنتاجية» و«العدالة التوزيعية» وربطه بفكرة أن الإنسان له بقدر عمله وليس بقدر حاجته، وهنا يتضح أنه لم يكن ماركسي الفكر أو التوجه. ويرى البعض أن من سلبيات تجربة عبدالناصر أن حكمه لم يكن ديمقراطياً وفسر ذلك بأن الظرف التاريخي كان يفرض عليه أن يتحكم في عملية اتخاذ القرار من 1952 إلى 1960 وهي الفترة التي عرفت بفترة «التحرر الوطني» لمواجهة أعداء الثورة، ولكنه كان مقتنعاً بالفكر الديمقراطي بدليل أن من مبادئ ثورة 1952 إقامة حياة ديمقراطية سليمة، وكان يفترض أن يتم تطبيق الصيغ الديمقراطية التي نص عليها الميثاق الذي أصدره في مايو 1962 كدليل للعمل الوطني في بداية عمل التنظيم السياسي الجديد والوحيد في مصر آنذاك، والذي حل محل «الاتحاد القومي» وسمي الاتحاد الاشتراكي العربي، وقال إن حرية الكلمة هي المقدمة الأولى للديمقراطية، ولكن لم تتحقق أي من هذه الأطروحات بسبب الخوف من استغلال مناخ الحرية لمصلحة أعداء الثورة. وعلى الرغم من ذلك انتهز أعداء عبدالناصر فرصة الأداء غير الديمقراطي لحكمه كي يجهزوا على نظامه، الأمر الذي مثل نوعاً من التحديات الداخلية والخارجية الضاغطة على الحكم، واعتبر مبرراً لاستمرار السياسات الشمولية، وفي اعتقادي أن هزيمة 1967 كانت إحدى نتائج الإخفاق الديمقراطي في الحقبة الناصرية. ويبقى لعبدالناصر مصر التي قادها للتاريخ وإزالة الحواجز التي كانت بين الطبقات وفتح الأبواب لطموح الفقراء لارتياد الآفاق وتحقيق الطموحات في الحرية والتعليم والتوظيف والترقيات من دون قيد طبقي أو مجتمعي ومن دون حواجز، ولكن بالكفاءة، وطبق مبدأ «مصر للمصريين» ففي عام 1951 وقف الجندي المصري أمام جحافل العدوان في منطقة الإسماعيلية وتحقق الجلاء في عام 1955 ثم العدوان الثلاثي في عام 1956 وحرب الاستنزاف في 1968، ثم الإعداد لمعركة التحرير التي أعد لها عبدالناصر (حرب عام 1973) وتلك هي حرب 6 أكتوبر 1973 التي لم يشهدها عبدالناصر، ولكن أعد لها القوة من رجال ومعدات ودبابات وطائرات ورادارات وجسور عائمة وتدريب مكثف وقادة أكفاء، منهم الرئيس أنور السادات والرئيس حسني مبارك قائد سلاح الجو وكتب الله النصر لمصر والأمة العربية. ما من زعيم إلا وقد تختلف من حوله الآراء وأكثرهم من جاء بعد وفاة عبدالناصر بالنسبة إلى الذين تتجاوز أعمارهم الـ60 عاما وما فوق، فهم يعرفون ما هو الحصاد وما هو المقياس وما هي الكرامة، فلا علينا من الروايات والقصص والخزعبلات التي تطلقها أصوات وأقلام أبناء وأحفاد خونة وعملاء الاستعمار القديم للأمة العربية الذين تدور حولهم الشكوك، لكن عبدالناصر كل ما شاهدناه وعرفناه ولمسناه هو أن عبدالناصر رجل من الآمة العربية فكان إنساناً كبيراً ووطنياً فذاً ومناضلاً لا يشق له غبار، رحل عنا فهو عظيم العزيمة والمجد لم ينحن للأعداء أبدا حتى في نكسة 1967 تقدم إلى التلفزيون وطلب من شعبه قبول استقالته كرئيس للجمهورية ومحاكمته إن أراد، لكن الشعب المصري كله أعاده إلى كرسي الرئاسة لأنهم يعرفون السبب وثقتهم بعبدالناصر أكبر من الهزيمة، ولكنه لم يستسلم لموشي ديان وغيره من الأعداء الذين تآمروا عليه طوال 18 عاما. وفي السياق نفسه أنه لزاما علي أن أذكر هنا أن عبدالناصر هو من أمم القناة وجعلها إلى يومنا هذا مصدرا للدخل القومي وثروة للاقتصاد المصري المستدام، فمن ذكريات الزمن الجميل للزعيم جمال عبدالناصر وجدت نفسي وبين أوراقي المتناثرة أبحث عن معلومة تفيد بأن قناة السويس بداية افتتحت في 17 نوفمبر عام 1869. إنه حدث تاريخي تحققت فيه الغايات الوطنية من العزة والكرامة والاستقلال، وكذلك في هذه الأيام هناك الزيادة الملحوظة في إيرادات الخزانة المصرية، حيث دعمت عوائد القناة الاقتصاد المصري بالمليارات من الدولارات، إنها قناة السويس الخالدة للاقتصاد المصري الدائم مازال يستخدمها العالم مطمئنا بتسهيلاتها الإدارية والفنية والأمنية والسلامة المقدمة من الحكومة والشعب المصريين وبفضل بطلها الحقيقي جمال عبدالناصر حين وقف شامخا قويا مدويا.. قرار من رئيس الجمهورية تأمم الشركة العالمية لقناة السويس (باسم الأمة.. رئيس الجمهورية.. مادة واحد.. تؤمم قناة السويس لتصبح شركة مصرية مساهمة لها حقوقها وعليها واجباتها والتزاماتها الأخرى). من هنا بدأت الانطلاقة، ففي الأسكندرية وبالتحديد في 26 يوليو من عام 1956 اتخذ جمال عبدالناصر أخطر وأشجع قرار تاريخي ردا على الغرب الاستعماري الذي رفض تمويل بناء السد العالي، في ذلك اليوم أعلن الزعيم ناصر نقل الأموال والحقوق إلى مصر وما عليها من التزامات مع تعويض المساهمين وحملة حصص التأسيس وتجميد أموال الشركة وما لها وما عليها من حقوق في الداخل والخارج. ففي الوقت الذي كان فيه الزعيم الكبير يعلن قرار التأميم كان رجال الهيئة المصرية للقناة يتسلمون بالفعل منشآت الشركة ومرافقها المختلفة ويديرون ملاحتها بكل كفاءة واقتدار وبأياد مصرية مدربة مسبقا.. فقبل عملية التأميم عقدت جلسة مكثفة مع المختصين في شؤون القناة، وتمت دراسة القرار بسرية تامة وبعد مناقشات مع أعضاء مجلس قيادة الثورة تحمل جمال عبد الناصر تداعيات التأميم وأصر على إعادتها إلى المصريين؛ لأنها أرض مصرية وملك لمصر. في عام 1854 في 30 ديسمبر من العام نفسه جاء فرديناند ديلسبس إلى الإسكندرية وعقد اتفاقا مع الخديوي محمد سعيد حصل بموجبه على امتياز حفر القناة فأنشئت الشركة وأخذت مصر 44% من الأسهم وتعهد الخديوي بتقديم آلاف المصريين لعملية الحفر ومات منهم 120 ألف عامل مصري. المصريون الذين يعرف عنهم حبهم لوطنهم تدفقوا بالآلاف لحفر القناة باعتبارها مشروعا قوميا وعائدا اقتصاديا دائما للدخل القومي ولها عوائد ضخمة من الأموال والتوظيف ستستفيد منها أجيال متتالية من أبناء مصر، للأسف لم تتحقق هذه الأمنية، فالقناة وبعد حفرها بدماء وعظام المصريين أصبحت تحت سيطرة المستعمر الأجنبي، فكانت دولة داخل دولة وقوانينها تنطلق بل تكتب من لندن وباريس، وكان عدد المديرين الكبار من الانجليز وهم عشرة بينما هناك مديران مصريان فقط، وكانت الهيمنة الأجنبية على القناة تتحكم في رسوم العبور، وعدد الأجانب في المراكز العليا والفنية مثل الإدارات التنفيذية والملاحة والإرشاد والصيانة حتى وصلت الأمور إلى احتلال مصر سنة 1882 فتعثرت الأوضاع واستدانت مصر حتى أنها باعت أسهمها في القناة البالغة 44 % وكان ذلك تحت ضغوط الاحتلال. اشترى الإنجليز القناة بمبلغ 4 ملايين جنيه وتنازل الخديوي إسماعيل عن الأرباح فحصلت بريطانيا على الأسهم الـ44% بالمجان. كان دخل القناة في ذلك الزمن 100 مليون دولار، تأخذ مصر منها فقط 3 ملايين دولار، بدليل أن الملايين الأربعة من الجنيهات لا تدفع إلا في السنوات الأربع من 15 ديسمبر 1910 والحصة والأرباح لا تبتدئ إلا من سنة 1921 التي تقدر بـ4% وتدفع كل عشر سنوات و6% في السنوات العشر الثانية و7% في السنوات العشر الثالثة و8% في العشر السنوات الرابعة و12% في السنوات العشر الخامسة والأخيرة التي تنتهي في عام 1968 وهي سنة تجديد الامتياز الذي كان سينتهي في عام 2008. تلك هي قناة السويس المجرى المائي الذي صنعه الإنسان المصري بتقديمه 120 ألف عامل كانوا ضحايا عملية الحفر وهناك آلاف الشهداء في حروب عدة منها حرب 1956 و1967 وحرب 1973. يبلغ طول القناة 103 أميال تربط البحر الأبيض المتوسط بالبحر الأحمر وتمتد حتى خليج السويس وهي تربط أربعة طرق بحرية هي المحيط الأطلسي والبحر المتوسط والبحر الأحمر والمحيط الهندي، وقد افتتحت رسميا في 17 نوفمبر 1869 وترجع أهمية قناة السويس إلى أنها قصرت الطريق الذي كان تبحر فيه السفن الضخمة من أوروبا إلى الشرق والعكس. كان طول الطريق البحري الأول رأس الرجاء الصالح 11.133 ميلا فأصبح بفضل القناة 6069 ميلا فقط وتسير السفن فيها ببطء شديد حتى لا يسبب اضطراب الماء انهيار جوانب ضفتي القناة: الشرقية والغربية ويؤدى إلى فيضانات. لقد حاول الاستعمار الاستيلاء على قناة السويس في عدة مراحل ومناسبات، فأخذت بريطانيا وفرنسا من التأميم ذريعة لهجوم مسلح على مدينة بورسعيد في 5 نوفمبر 1956 بعد أن سبقتهما إسرائيل بالهجوم على سيناء في 29 أكتوبر سنة 1956، وكذلك احتلالها في عام 1967 ومن ثم تحريرها في عام 1973. كتب الفيلسوف الألماني (ليبنتز) تقريرا للويس الرابع عشر ملك فرنسا قال فيه: «إذا أردت أن تضرب هولندا في مقتل فأمامك مصر فإنك تنال منها ما تريد وما لا تناله لبلادها نفسها لأن هولندا دولة تجارية وحياتها في بقاء تجارتها، فإذا زحفت على مصر وأخذتها وحفرت هناك قناة تربط بين البحرين: المتوسط والأحمر، فإنك احتكرت لبلادك جميع أنواع التجارة وهزمت هولندا وغيرها وأصبحت سيد الهند وبلاد المشرق وقطعت طريقها على من عاداك فزد على ذلك أنك تنال أجرا كبيرا من عند الله وعند الناس إذ تخلص هذه البقعة المباركة (القناة) من أيدي المسلمين الذين لا يليق بالأمم المسيحية أن تسكت عن بقائها في أيديهم». تلك كانت بداية المؤامرات على مقدرات مصر، ولكن عند الزعيم عبدالناصر «كل ما أخذ بالقوة لا يسترد إلا بالقوة»، فما زالت قناة السويس تقدم اللبنات القوية للاقتصاد المصري ويرجع الفضل إلى الإدارة الوطنية في شعب مصر وقادتها في بناء الاستقلال وإذا كان قائد التأميم قد رحل، فإن مصر اليوم بقناتها مستقلة حرة أمرها بيدها، وقد نفضت عنها غبار الماضي البغيض، فالقناة اليوم صرح عال يطاول السماء وتفتخر به شعوب الأمة، فليعلم هذا الجيل كم كان قرار التأميم صعبا ومكلفا، لكنه كان قرارا صائبا وشجاعا وقويا مستديما لأبناء مصر، كما انه لزاما علينا ان نشيد بالقناة الثانية اي التوسعة التي قدمها الرئيس الحالي عبدالفتاح السيسي لهذا الصرح العظيم لتقدم مصر وبرجالاتها الأكفاء خدمة للبشرية جمعاء. لقد رأينا الاستعمار كم كان مهزوما يحمل عصاه على كتفه ويرحل أمام ذلك القرار التاريخي الشجاع. لقد صفعهم عبد الناصر رحمه الله وأخمد أصوات المشككين في قراره البطولي واستردّ القناة، التي ستظل باقية في ضمير المصريين شامخة، تحقق عائدا قويا للاقتصاد الوطني المصري ولأجيالها جيلا بعد جيل، فأصبحت القناة ملكا لمصر بفضل شجاعة بطلها جمال عبدالناصر رحمه الله وأسكنه فسيح جناته.

مشاركة :