الجزائر - أمام التغلغل غير المسبوق للطوائف والمذاهب الدينية في المجتمع الجزائري، يجري تقاذف التهم بين الفاعلين في المجال الديني، حول مسؤولية تسلل الأفكار الدينية الحديثة وظهور موالين لمختلف المذاهب المتنافرة، بشكل يهدد وحدة وتماسك المرجعية الدينية للبلاد، ويضع خطاب الأمن الديني على المحك، في ظل فشل الحكومة لحد الآن عن صد المد المذهبي والطائفي. واتهم وزير الشؤون الدينية والأوقاف الجزائري محمد عيسى، النخبة المثقفة في البلاد، بالتقصير في حماية المرجعية الدينية للبلاد منذ ثمانينات القرن الماضي، في تلميح لتبرئة الحكومة الحالية من تهم الفشل التي تلاحقها بشأن تحصين المجتمع من تغلغل التيارات الدينية والمذهبية، والخطر الذي يهدد تماسك ووحدة المرجعية الدينية في الجزائر. وأخرج تصريح الوزير عجز الحكومة عن تحمل مسؤولياتها تجاه الخطاب الديني السائد، والاعتراف بأن تغلغل التيارات الدينية أخذ شكلا عموديا، باستقطاب موالين وأنصار في مراكز يمكن أن تقدم يد المساعدة لتمدد هذا التيار أو ذاك، وأن المسألة لم تعد تقتصر على الامتداد الشعبي في المؤسسات الدينية ومحيط المساجد التي يجري صراع محتدم من أجل السيطرة عليها. وذكر مصدر مسؤول في وزارة الشؤون الدينية رفض الكشف عن هويته لـ”العرب”، أن “الخطاب الديني المنتهج من طرف السلطة، لإرساء خيار الوسطية والاعتدال يفتقد للمصداقية، بسبب التناقض في توجهاته وعدم مواكبته للاهتمامات الدينية للشارع الجزائري، وتوظيف المؤسسات الدينية لخدمة أجندات السلطة وليس أجندة الشعب، فمن جهة ينهى عن استعمال المنابر المسجدية في النشاط السياسي، ومن جهة أخرى يتم توظيفها لنشر خطاب السلطة”. وأضاف المتحدث: “تعاني الكوادر الدينية والأئمة من ضعف في التكوين، ومن عدم مواكبة تطورات المجتمع ولغة التواصل، ومن هشاشة اجتماعية تضعهم في مواقع ضعيفة أمام إغراءات ناشطي التيارات والمذاهب الأخرى، وما تهديد نقابة الأئمة وموظفي قطاع الشؤون الدينية بإخراج احتجاجهم إلى الشارع، إلا دليل على وضع هؤلاء”. ولم يشر الوزير في تصريحه، إلى شكل أو طبيعة النخبة التي اتهمها بالتقصير في حماية المرجعية الدينية للبلاد، إلا أن التلميح يذهب إلى الكوادر الجامعية والإعلامية وحتى الرسمية، التي أدارت ظهرها في العقدين الأخيرين من القرن الماضي إلى التيار الصوفي والمؤسسات التابعة له، والانفتاح بشكل لافت على التيارين السلفي والإخواني، اللذين انطلقا من منصة التعليم والمؤسسات التربوية، لما كانت الجزائر تستعين بكوادر عربية لتعليم أبنائها. وقد يكون أيضا اتهاما مبطنا لسلطة العقدين المذكورين، التي سمحت ببروز تيار الإخوان والسلفيين أيديولوجيا وسياسيا، والذي ترجم بتجربة الجبهة الإسلامية للإنقاذ، وما أعقبها من حرب أهلية وعشرية دموية، أخذ فيها العنف شكلا ومضمونا دينيا، وذلك بعد أن تم غض البصر عن تجارب إسلامية لا تمت بصلة للموروث والمرجعية المحلية. وتابع المصدر: “لكل مرحلة ظروفها وخلفياتها، ولا يمكن للوزير التهرب من المسؤولية، فإذا تم اختراق المرجعية المحلية في وقت ما، فإن الدولة مطالبة بالتدارك ووضع الاستراتيجيات الناجعة، لأن الأمر لم يعد يقتصر على تياري الإخوان والسلفية، بل تعداه إلى الشيعة والأحمدية والقرآنية وحتى الإلحادية.. وغيرها، وهذا لم يكن ليحدث لولا وجود ثغرات لم يتم ترميمها، لا سيما أمام غزو شبكة الإنترنت والفضائيات”. وصرح محمد عيسى في البرلمان، خلال رده على سؤال رقابي حول المسألة، بأن “التدين الوافد لم يخترق في عصري، وإنما اخترق بعد تقصير النخب المثقفة”، في إشارة للنأي بالنفس عن العتب الموجه للحكومة حول عدم نجاعة مشروع الأمن الديني لحد الآن، في حماية المجتمع من الاختراقات الدينية. وأكد بأن “الطبقة المثقفة لم تقم بدورها في نهاية الثمانينات وبداية التسعينات. وأن المرجعية الدينية اخترقت بعدما تم استيراد أفكار غريبة عن المجتمع الجزائري، ورغم سعي الوزارة والكوادر الدينية على حماية المرجعية الدينية، إلا أن قلة الوعي لدى البعض خاصة من بني جلدتنا جعلنا نتعطل”، وهو اعتراف صريح باستمرار العملية التي تستهدف التمكين لمذاهب وأفكار مستوردة، وبتمكنها من تجنيد موالين لها في البلاد. وكان التغلغل المذهبي قد أثار في السنوات الأخيرة لغطا كبيرا في الجزائر، خاصة مع اتصاله بانتقاد المنظمات الحقوقية لإدارة الحكومة لمبدأ حرية المعتقد وحرية الأقليات، بعد المعالجة الأمنية التي طبقت في التعاطي مع خلايا التيار الأحمدي، حيث تمت إحالة العديد من الناشطين ورموز هذا التيار إلى القضاء بتهم زعزعة استقرار ووحدة المجتمع. وأفاد مصدر مطلع، أن الحكومة الجزائرية تعرضت لضغوط دبلوماسية، حيث استدعت الحكومة البريطانية السفير الجزائري في لندن للاستماع إليه في القضية وتبليغه احتجاجها، كما أن وزير الشؤون الدينية نفسه خفف من لهجة خطابه الحاد في الأشهر الأخيرة تجاه تلك الطائفة، مما يوحي بتعرض الجزائر إلى ضغوط في هذا الشأن. وأعادت احتفالات عاشوراء الحديث مجددا عن الخلايا السرية للمذهب الشيعي في الجزائر، إذ تتحدث مصادر متطابقة عن احتفالات سرية نظمت في بعض مدن وربوع البلاد، بعيدا عن عيون الرأي العام ومصالح الأمن، كما أن بعض الناشطين سافروا إلى العراق وإيران تحت غطاء السياحة للمشاركة في الاحتفالات المذكورة.
مشاركة :