في الذكرى المئويّة الثانية لميلاده يعود طيف الفيلسوف الألمانيّ كارل ماركس (5 أيّار/ مايو 1818 - 14 آذار/ مارس 1883)، ليُخيِّم فوق مسقط رأسه مدينة ترير (في ولاية راينهالد بفالز- غرب ألمانيا) بعد رحلة طويلة بدأت من الصين حيث أكَّد رئيسها تشي جين بيغ عشيّة المناسبة أنّ بلاده ستستمرّ في «رفع راية الماركسيّة العظيمة عالياً» وأنّ الحزب الشيوعيّ سيبقى إلى الأبد «الوصيّ والمُمارِس» لهذه النظريّة. في ساحة Simeonstiftplatz وسط مدينة ترير وعلى مقربة من المنزل الذي شهد ولادة فيلسوف، واقتصادي، وصحافي ثوري غيَّر مجرى التاريخ، تمّ كشف النقاب عن تمثال ماركس للنحّات الصيني وو ويتشان، المصنوع من البرونز بارتفاع 5.50 متر. التمثال هديّة من الصين إلى مدينة صاحب «رأس المال»، حيث يظهر بلحيته الكثّة، وهو يمشي مُرتدياً معطفه الطويل ويضع كِتاباً تحت ذراعه الأيسر. الألمان على المستوى الرسمي تعاملوا مع المناسبة بإيجابيّة وقبلوا هديّة الجمهوريّة الشيوعيّة، على الرّغم من أنّهم يعتمدون النظام الاقتصادي الرأسمالي الذي حذّر ماركس من تداعياته ومَخاطره. فالذكرى كانت فرصة للتعبير عن احترامهم لرجل فكر وصاحب كلمة بغض النّظر عن موافقتهم على مضمونها أو عدمها. لهذا أقيمت ثلاثة معارض كبيرة في ترير، بينما أقامت ولاية راينهالد بفالز معرض «كارل ماركس (1818 - 1883)، حياة-عمل، نفوذ حتّى الوقت الحاضر»، في موازاة التنظيم لإقامة أكثر من 400 معرض من حوالى 12 ولاية ألمانيّة.المفكّر العظيم بعد 200 عام على ولادة عالِم الاجتماع الذي لفظته بلاده (كانت تُسمّى بروسيا) مرّتَين بسبب أفكاره ونشاطه، الأولى إلى فرنسا، حيث تعرَّف في باريس إلى صديق عمره فريدريك إنجلز في العام 1843، والثانية إلى بريطانيا في العام 1849، حيث توفّي ودُفن في لندن، عاد ماركس إلى مسقط رأسه، وسط إشادة الرئيس الألماني فرانك فالتر شتاينماير الذي وصفه بأنّه «مفكّر ألماني عظيم»، مؤكِّداً أنّ ماركس كان مفكّراً حاسماً في فكره، «وكانت مبادئه حاسِمة»، غير أنّه اعتبر القوّة الداخليّة الدافِعة لماركس كامِنة في ظروف عصره. لقد أُعيد الاعتبار لهذا الرجل بعد نحو 28 عاماً على توحيد برلين وسقوط المنظومة الشيوعيّة الاستبداديّة التي زعمت أنّها تطبِّق مبادئ صاحب «الماديّة الجدليّة» الذي عاش في المنافي والذي تأثّرت به أجيال، فتحدّث عنه رئيس ألمانيا قائلاً: «لقد اهتمّ ماركس بالتغلّب على البؤس الاجتماعي من أجل تحرير الناس من الفقر والوصاية ومن اليد الحديديّة للدولة العليّة.. إنّ أعمال ماركس مُشبعة بإنسانيّة عاطفيّة حميمة، إلّا أنّه ليس من المُمكن فصل ماركس عن الماركسيّة، ولا يُمكن فصل أعماله عن آثارها». لكنّ الرئيس الذي ينتمي إلى الحزب الاشتراكي الديمقراطي المتحوِّل منذ عقود عن إيمانه بالماركسيّة إلى اعتماد سياسة أكثر براغماتيّة وانفتاحاً، استدركَ فوضَع نقاط اليقين على حروف الشكّ، قائلاً «نحن الألمان لا يصحّ أن نغالي في تقدير كارل ماركس ولا أن ننفيه من تاريخنا، ولا يجب أن نخشى ماركس ولا أن نصنع له تماثيل ذهبيّة».أفكاره مُلهِمة على أيّ حال لم يكُن ماركس طوال العقود الماضية غائباً عن بلده، فهو حاضر في بَرامج حزبيّة وكُتب ودراسات وأطروحات جامعيّة ونقاشات سياسيّة واقتصاديّة، حتّى أنّ هناك نحو 500 شارع باسمه ونحو 50 ساحة موزَّعة على المقاطعات الستّ عشرة. لهذا اهتمّت وسائل الإعلام الألمانيّة بهذا الحدث في اليوم الخامس من أيّار(مايو)، فاقتبست صحيفة «ولاية ساكسونيا» Sächsische Zeitungعبارة «شَبَحٌ يحوم في أوروبا» المنقولة من مقدّمة «البيان الشيوعي»، الذي ظهر في العام 1848، كعنوان لتغطيتها للحدث. وفي 22 أيّار (مايو) كتبت الصحيفة نفسها مقالاً تحت عنوان «ما الذي سيقوله لنا كارل ماركس اليوم؟» جاء فيه: «كان ناقداً للرأسماليّة وأباً للعقيدة الشيوعيّة. عندما غرق العالَم الماركسي-اللّينيني في الشرق عام 1989، بدا كارل ماركس قاتلِاً مثل مسمار الباب. لكنْ بعد الخامس من أيّار(مايو) عاد الفيلسوف، عالِم الاجتماع، والاقتصادي والصحافي كارل ماركس. ماركس المُلتحي لم يكُن مجرّد أداة تسويق على أكواب القهوة و»الفلاش ميموري«بل لا تزال أفكاره مُلهِمة بعد 200 سنة على ولادته». أمّا الصحافي فولكر بليش، فكتَب في صحيفة «Berliner morgenpost» يقول «اليوم يُحتفل بالعيد المئتَين لميلاد الفيلسوف. ومرّة أخرى تحضر جميع المشاعر من عبادة الصنم إلى الشيطَنة. كتوجيه مبدئي للذكرى السنويّة، يُمكن أن نرى أنّ طوباويّة ماركس العظيمة تقودنا إلى عِلم التاريخ».كان مُنظِّراً للحريّة السياسي الألماني الشرقي السابق غريغور غيزي (رئيس حزب اليسار الأوروبي) رأى أنّ الاشتراكيّة الديموقراطيّة لم تُتِح فرصة لها أبداً. واعتبر أنّه تمّ استخدام نظريّات الفيلسوف الألماني بشكلٍ انتقائي وخلْطها مع نظريّات مؤلّفين آخرين مثل لينين. زعيم حزب «الاشتراكيّة الديموقراطيّة» السابق الذي ورث الحزب الاشتراكي منذ أيّام الدولة الشيوعيّة في شرق ألمانيا، أوضح في حديثٍ إذاعي عشيّة الذكرى مع «Deutschland Funk» أنّ المرغوب فيه هو اشتراكيّة ليبراليّة «تفعل ما تستطيع الرأسماليّة فعله»، مُضيفاً «الشيء الوحيد الذي يجب أن يُقال هو أنّه محاولة اشتراكيّة لا يُمكن أن تتمّ إلّا في الدولة الرأسماليّة الأكثر تطوّراً، في حين أنّ لينين قام بتلك المحاولة في أكثر الدول الرأسماليّة تخلّفاً»، مقرّاً بأن «اشتراكيّة الدولة أساءت إلى كارل ماركس». المُفارقة أنّ السياسي الذي شهد أثناء تولّيه مناصب قياديّة في جمهوريّة DDR مُمارسات جهاز «شتازي» السرّي، حاول التكفير عن ذنب سابق موضحاً: «أقول أيضاً للضحايا الذين كانوا في السجون، ليس عليهم مُعارَضة ماركس، بل مُعارَضة إساءة معاملته. لم يكُن ماركس يريد ذلك. لقد كان مُنظِّراً للحريّة». وذهب غيزي أبعد من ذلك رافضاً إطلاق لقب الماركسي عليه وقال «لن يكون لقبي الماركسي بعد الآن.. لا ينبغي للمرء أن يكون ماركسيّاً، لا ينبغي أن يكون لدى المرء عقيدة.. لكن ما لا أؤمن به هو أنّ الرأسماليّة هي نهاية التاريخ. أعرف ما يُمكنها فعله، وأعرف ما لا يُمكنها فعله.. في نهاية المَطاف لا يُمكن للرأسماليّة أن تقوم بتحرير البشريّة».ضحايا الماركسيّة لا يزال طَيف كارل ماركس يحوم على صفحات الصحف حتّى الآن؛ ففي الأوّل من حزيران (يونيو)، جاء في صحيفة «Saarbruecker» لا ينبغي لأحد أن يقدِّس كارل ماركس الذي كان يَعتبر «الدّين أفيون الشعب»، مثل التماثيل الضخمة الخالدة. لقد جلب الماركسيّون للينين وستالين وماو تسي تونغ معاناة لا توصف على البشريّة. وتناولت شخصيّة ماركس معتبرة أنّه «لم يكُن قدوة كشخص!.. طوال حياته كان مُستغَلّاً. لولا مساعدة صديقه الرأسمالي أنجلز لكان وعائلته ماتوا من الجوع». ونُشر مقال في صحيفة «Tagesspiegel» جاء فيه «إنّه يهتمّ بالتغلّب على البؤس الجماعي، والتحرّر من الفقر والأبويّة، من اليد الحديديّة للدولة السلطويّة. هناك نداءات من أجل حريّة الصحافة وظروف العمل الإنسانيّة، تعليم الطبقات العامِلة، وتقدير النساء في النضال من أجل الحريّة وصولاً للنداء بالحماية البيئيّة». لطالما أُعيد تأويل كارل ماركس وتكييفه مع التطوّرات التاريخيّة، بحسب تعبير زابينه نوس مديرة دار نشر «كارل ديتز» التي تنشر أعمال الفيلسوف منذ حقبة ألمانيا الاشتراكيّة حتّى يومنا هذا. تقول نوس «حتّى اليوم، يتمتّع ماركس بصلاحيّة.. وحتّى الآن، ترتفع أرقام المبيعات مرّة أخرى. ربّما بسبب الذكرى السنويّة: صادف العام 2017 الذكرى السنويّة الـ 150 لصدور كِتاب رأس المال، ويُصادف هذا العام الذكرى السنويّة الـ 200 لميلاد كارل ماركس. الآن، بعد نحو 30 سنة من سقوط جدار برلين، يُمكن للمرء أن يقترب من العمل بطريقة مُحرَّرة وغير متحيّزة.. تحرّر من عقائد الماضي، ومن إيديولوجيّة الدولة، وحرب الخنادق في المناقشات الماركسيّة للغرب». من جهتها ترى الصحافيّة فرانسيسكا أوغسطين في صحيفة «Suddeutsche»، أنّ كلّ حقبة لها ميزتها في فَهم هذا الفيلسوف، «قبل ثلاثين عاماً بدا ماركس قديماً؛ عناوين مثل»رأس المال«،»نظريّة البؤس«،»البروليتاريا«،»الطبقة«،»الاغتراب«أدَّت إلى طريقٍ مسدود: كان العمّال الألمان يملكون سيّارات مرسيدس، اختار العديد منهم الحزب الديمقراطي المسيحي. اليوم، بينما تعمل العَولمة تغيّرت الأمور. فمنذ بدأت المَصانع تنتج سلعها بسعرٍ رخيص، أصبح الاستغلال مرّة أخرى مشكلة. إنّ روّاد انتفاضة الفقراء هُم اللّاجئون الأفارقة، الذين تعتمد عليهم السياسات الاقتصاديّة في الغرب والصين». وأهمّ ما تنقله أوغسطين وصيّة الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون خلال حديث صحافي سُئل خلاله أيّ كِتاب ينصح للقراءة فأجاب «إقرأوا رأس المال» لماركس، فمِن شأنه أن يكون مفيداً «لفَهْم العالَم»، مُشيرةً إلى أنّ «الرأسماليّة، حقّاً، ولأوّل مرّة في تاريخها، يبدو أنّها تعمل فعلاً كما وصفها ماركس».
مشاركة :