هل يبدو العشب أخضر في الجانب الآخر

  • 9/29/2018
  • 00:00
  • 1
  • 0
  • 0
news-picture

كم تشبهين السيدات الأنيقات في ستينات القرن الماضي، وأنت تصرين على ارتداء هذه الملابس الغريبة! ــ أما أنت فتشبهين سيدة عراقية تسكن في دربونة قديمة بحي شعبي، وهي تحنو على أبنائها وتصفهم بالـ”بزر” الذي سيثمر يوما ويزين حياتها! عزيزتي، أنت متأكدة بأن والدتك إنكليزية وجدتك من برايتون؟ كل مرة ألتقي فيها صديقتي الإنكليزية العذبة، كان يتكرر هذا الحوار المطعّم بالعربية التي تجيدها أكثر من إجادتي الإنكليزية، ثم ينتهي بضحكة مجلجلة من جانبها، تتبعها بكلمة أخرى من اللهجة العراقية التي شربتها على مدى أربعين عاما؛ وهي ثمرة زواجها من الرجل الذي أحبته وأحبها. “هل أحبها حقا؟”. عندما التقيتها في المرة الأخيرة، لم أر حتى شبح ابتسامة، رأيت فقط دموعها العزيزة وهي تفرّ من مقلتيها. الدموع لا تناسب كثيرا بشرة ليزا الرقيقة، حتى أن مشهد انكسارها لم يكن متماشيا مع شخصيتها القوية وروحها الضاجّة بالحياة. لطالما كنت مأخوذة بحيويتها وحماسها في العمل؛ كانت ليزا مثالا للمرأة الناجحة وهي تقف على رأس عملها وتحرص على كل تفصيلة.. كل صغيرة وكبيرة، كي لا تخرج الأمور عن نطاق سيطرتها. وكان هو؛ الرجل في حياتها، محض ظل تتوارى خلفه مسؤولياتها الكبيرة الموزعة بين العمل والمنزل ومستقبل الأبناء، وهي تتأرجح على حبل تكاد حافته تتآكل بين الحين والآخر بسبب ثقل الحمل. لم تكن ملامح الزوج تظهر كثيرا في مشهد حياتها المزدحم وكنت أتساءل دوما: ترى ما الذي يفعله ذاك “الظل”، غير أن يقف مرتاحا مستكينا وهو ينعم بفيء أنانيته، يتفرج عليها وهي تكاد تقع بين لحظة طموح وأخرى، من دون أن يمدّ إليها يدا حانية أو يدور في فلكها بقلب محب؟ هذا هو قدرها، كنت أقول في نفسي؛ وراء كل امرأة طموحة ظل لرجل لا يبالي. وهي أيضا، لم تكن تبالي بإهماله لها، أو هكذا خيّل إليّ في المرات المتباعدة التي كنت ألتقيها فيها. لكنها قبل أيام بدت شخصا آخر؛ بعد أن مزقت بأظافرها قناعا من المطاط القاسي كانت ترتديه لسنوات، فظهرت ملامحها الجديدة؛ عذبة نضرة، ببشرة صافية وخطوط بسيطة في الجبين، من الصعوبة تمييزها على الرغم من سنوات عمرها، وفوق كل هذا كانت هذه الدموع هي كل ما تبقى من ذاك الرجل، ذرفتها، ثم عادت إلى عملها بنشاط. “رحل”؛ أخبرتني بين الجد والهزل، “فجأة، بعد أربعين عاما من الحياة المشتركة والأبناء الرائعين، رحل تاركا خلفه رسالة باردة في البريد تنهي علاقة الزواج رسميا وكأنه يستعجل سداد فاتورة كهرباء في الصباح الباكر، حتى يلحق بعمله، هكذا ببساطة!”. “طبعا، أنت تمزحين؟”، سألتها غير مصدقة. “لا، لا أمزح، هجرني ثم عاد إلى بلده وتزوّج بأخرى! هل اعتاد الرجال في بلدك على هجر زوجاتهم بهذه الصورة الفظيعة؟”. لم أجبها، لكن شعورا غامضا بالذنب صار يتلبسني، وكأنني مسؤولة عن حزنها. لم تكن ليزا تريد التحدث كثيرا عن تفاصيل حياتها وحبها الذي انتهى برسالة باردة. كانت حائرة وغائبة، وهي لا تفهم ما الذي جعله يرحل ويفضل عليها امرأة أخرى، كيف تجرأ وهشم السياج في حديقة منزلها ليذهب إلى الجهة الثانية؟ “كنت أعتقد بأنني أنتمي إليه، إلى بيته وأتكئ على سياجه وبأنني سأكون قوية في هذا البيت، لكنه كان بيتا من رمل وسياج متهالك من أشواك”. ما زلت صامتة لا أعرف جوابا، وما زالت ليزا تتساءل؛ ترى هل يبدو العشب أكثر اخضرارا في الجانب الآخر من السياج؟

مشاركة :