توجهت في السنوات الأخيرة موجات بشرية هائلة من المهاجرين الى أوروبا (بلغت ذروتها في العام 2015) قادمين من دول الجنوب، هرباً من الفقر والاضطهاد والموت، وبكثافة استثنائية. الرحلة طويلة وشاقة فقد تنتهي حياتهم وهم في الطريق الى أرض جديدة مختلفة تماماً، يصلون اليها عبر الطرقات البرية في شاحنات مكشوفة، أو عبر البحر متكدسين في قوارب الموت الصغيرة. هؤلاء الهاربون من جحيم الفقر والحروب في القارة الآسيوية والإفريقية، يحطون رحالهم الأخير في الأقطار الأوروبية بعد قطع مسافات طويلة، لكن لماذا الهجرة الى الشمال البعيد بالتحديد؟. إنه الحلم بالفردوس المفقود، والحياة الرغيدة والاستقرار في البلدان الغنية الآمنة، فهم إن حصلوا على حق اللجوء تنتظم حياتهم تماماً ويستقرون في المهن البسيطة، في المقاهي، وسياقة سيارات الأجرة في الشركات الخاصة، أو في المطاعم وغيرها. ورغم كل الصعوبات التي تواجههم إلا أنهم يشعرون في الغرب الغريب بإستقرار نسبي، بعد أن تخلصوا من الحروب والأخطار وقصف المدافع والبراميل المتفجرة والأسلحة الكيماوية. في لندن التي أزورها بين وقت وآخر ألتقي ببعضهم ممن قضوا بضع سنوات في بريطانيا واستقروا في مهنة أو وظيفة، وأغلبهم من العالم الثالث، من مختلف القوميات. مشواري بالتاكسي يطول قليلاً فأنا أسكن في أطراف عاصمة الضباب التي تستقبل في الصيف ملايين السواح، من مختلف البلدان، أتحرك من أطراف المدينة الصاخبة والمزدحمة، حيث أسكن الى وسطها حيث يطيب لي الحشر مع الناس في شارع أكسفورد أو شارع ريجنت أو بيكادلي، الأماكن الأشد ازدحاماً وحركة. ويدفعني فضول المعرفة للحديث مع هؤلاء السواق المهاجرين طوال الطريق. أسألهم عن أحوالهم هنا في الغرب، فأنا أعرف ظروفهم القاسية في بلدانهم، حيث لا تساوي حياة الإنسان إلا طلقة رصاصة، وأسئلتي تتمحور حول الأحوال المعيشية، وفرص العمل ومدى ارتياحهم هنا أو ضيقهم من الغربة والعزلة التي تصيب المغتربين. إنه أشبه باستبيان شفوي وسريع (في عصر السرعة) فأنا أعرض نفس الأسئلة على مجموعة من المهاجرين القادمين من دول مختلفة عبر أيام مختلفة، ولَم أندهش عندما جاءت إجاباتهم واحدة فأنا أعرف مقدماً أنهم يعيشون هنا حياة هادئة وآمنة لايجدونها في بلدانهم الأصلية، وأسعى عبر أسئلتي للتأكد فقط من معلوماتي السابقة عن الحياة في الغرب، وبشكل أكثر دقة. معظم سواق التاكسي الذين تحدثت معهم يحملون جوازات سفر بريطانية، ويؤكدون لي أن الحصول على جواز سفر بريطاني في الماضي كان سهلاً للغاية، إلا أنه أصبح صعباً في الوقت الحالي، فالهجرات الى الغرب تضاعفت كثيراً في السنوات الأخيرة، بحيث أصبحت تشكل عبئاً اقتصادياً بالإضافة الى المشاكل السياسية التي أفرزتها هذه الهجرات، صعود الأحزاب اليمينية المتطرفة. هذا الجيش الجرار من اللاجئين يوفر أيدي عاملة رخيصة، رغم ذلك فالراتب الذي يتلقاه المهاجر هنا كبيرجدا مقارنة بموطنه، وهناك الامتيازات المتعددة، مثل راتب التعطل عن العمل، وامتيازات التعليم المجاني حتى الجامعة للأولاد، إضافة الى بدل سكن إذا كان المهاجر بلا سكن، وإذا كانت حالة المهاجر المادية جيدة يدفعون له نصف بدل سكن، هناك أيضا العلاج المجاني. وإذا كان المهاجر الذي أصبح مواطناً لا يستطيع العمل لعلة أو مرض يصرف له راتب مدى الحياة، وفوق ذلك هناك الطمأنينة فهم محميون بحكم القانون في الصحة والمرض والشيخوخة والبطالة، ولا أخطار هنا أو حروب أهلية. أسأل سائق أرتيري هل تريد العودة الى بلادك؟ يبتسم ويقول: ماذا أفعل هناك، أنت من العالم الثالث وتعرف كل شيء، ثم يعدد لي الامتيازات التي يحصل عليها في بريطانيا ولا يحصل عليها في بلاده، ويختم حديثه قائلاً: بالإضافة الى ذلك أشعر هنا أنني حر، هذه بلاد الحرية، يقولها بصوت أعلى. نصل الى شارع أكسفورد العامر بالحيوية والضجيج وكرنفال الموضات والألوان والموسيقى التي يعزفها الشحاذون والفنانون. أرى الوجوه الهادئة أو المبتهجة من حولي سواحاً أو مواطنين أو مهاجرين. في لندن يشكل الأجانب نسبة كبيرة من السكان، يقول لي طبيب بريطاني إن معظم سكان لندن غير إنجليز، ربما هو يبالغ، لكنها إشارة أيضا على ازدحام لندن بالأجانب. لكن الهجرات لا تأتي فقط من العالم الثالث، فهناك مواطنو أوروبا الشرقية الفقراء، خصوصاً من البلدان الأكثر فقراً مثل بولندا ورومانيا وألبانيا. من خلال هذا الاستبيان الشفوي مع سواق سيارات الأجرة، تأكدت مما قرأته عن الامتيازات الكثيرة الاجتماعية والسياسية والاقتصادية التي يتمتع بها المواطنون في الغرب، كما أدركت أن الهجرات الخطرة الكثيفة الى الغرب لها ما يبررها.
مشاركة :