الوطن العربي وطريق الاستقرار السياسي - د. عبد الحق عزوزي

  • 1/3/2015
  • 00:00
  • 1
  • 0
  • 0
news-picture

السنوات الأربع الأخيرة التي ودعناها في الوطن العربي كانت مليئة بالمفاجآت والوقائع التي لم تخطر على بال أكثر الناس ذكاء، وأكبر المراكز البحثية في أميركا وأوروبا خبرة ومكانة، وأعظم المحللين والاستراتيجيين علماً ودراية، فما كان أحد يتكهن بأن نظام بن علي سيفنى بين عشية وضحاها، ولا تصور أحد أن أنظمة عربية عديدة ستتهاوى في رمشة عين، أو أن يتحول الربيع العربي إلى خريف وخراب في العديد من الدول والأمصار، وما كان أحد يظن أن أنظمة ديمقراطية انتخبت بأذكى قواعد الشفافية ستزول بدورها كما في اليونان وإيطاليا وغيرها، إنها سنوات تحملنا إلى مفهوم سياسي في أكبر معانيه، ألا وهو حمل العام والخاص على مقتضى النظر العقلي في جلب المصالح الدنيوية ودفع المضار. ويمكن تلخيص المصالح الدنيوية اليوم في إقامة العدل والعدالة وتحقيق التنمية: وهي مفاهيم لمعادلة توازنية مجتمعية واحدة. فأنظمة مثل تونس ومصر وليبيا مثلاً كانت بمثابة أجسام مغلقة على نفسها لا يدخلها الهواء النقي، وكانت منفتحة على قاعدة فئوية ضيقة تأخذ من ذلك الهواء الفاسد وتحاول أن تموه على الناس وتقول إنه هواء صالح للحياة، فافتقدت تلك الفئة إلى التمثيلية والشرعية القاعدية التي تصون السلطة وتسقيه كل يوم بمبدأ الثقة بين الحاكم والمحكوم الذي يحمي الغرس من الذبول والفناء. تلك الأنظمة العربية لم تحقق لرعاياها الحضن الدافئ الذي يحميها من الأمراض والأعراض الضارة، ويوفر لها الأمن والطمأنينة والعيش الكريم ورغيف الخبز المقبول، ويتولى تحسيسها بأنها تنتمي إلى التاريخ، بدل القمع المادي والرمزي والاحتقان الاجتماعي والتسلط والانتهاب والحيف، فاقتدرت تلك الأنظمة على شعوبها لسنوات بل ولعقود ظانة أنها مسألة حتمية وقدرية، فرددت عليها التسلط والنهب والزحف لسهولتها عليهم إلى أن أصبح أهلها مغلبين لهم، ولكن لن يخطر على بالهم أنهم سيتعاورونهم فيما بعد باختلاف الأيدي وانحراف السياسة، والله قادر على خلقه. غير أن تلك الفئات السياسية المتسلطة تفاجأت بقوة ردع المجتمع الرقمي وتكنولوجيا الاتصال، فمنذ سنوات عديدة لم يكن هناك شيء اسمه الفيسبوك ولا التويتر، كما أن استعمال الإنترنت كان محدوداً وعدد الهواتف قليلاً جدّاً، أما اليوم فقد تغير كل شيء حتى إن عدد الهواتف النقالة في بعض البلدان العربية يتعدى عدد ساكنته. وهاته السنوات تذكرنا أيضا بفئات سياسية وصلت بعد الاحتجاجات العربية ولكنها للأسف لم تفهم معنى السياسة ولم يكن لديها وعي تنموي ولم تستبطن لا مفهوم الدولة ولا مفهوم العصر، فانقلب عليها الأولون والآخرون.. وأما مقتضى النظر العقلي فيما يقع فيعني ضرورة تحقيق النهضة وتحقيق النمو والتنمية وتحسين مستوى العيش وتجذير مبدأ الثقة بين متخذي القرار والناخبين، إذ لا يكفي الانفتاح السياسي اليوم لوحده لإسكات غضب الشارع إذا لم يجد الإنسان ما يلبي متطلبات عيشه الآمن، فالانفتاح السياسي لا يؤكل وإنما هو غاية أو وسيلة لتحقيق التنمية ورخاء الشعوب، وقائدو تلك الغاية أو الوسيلة هم النخبة المسيِّرة من ذوي الكفاءة والذكاء والتجربة الكافية التي تجعلهم يخططون وينفذون سياسات مصيرية لشعوبهم. إن الحكومات ينبغي أن تتعلم من تجارب اليونان وإيطاليا درساً جديداً في العلوم السياسية المقارنة وهو أنه على رغم تواجد حكومة ديمقراطية (حتى ولو كان عمر تلك الديمقراطية يتعدى القرن)، إذا لم تحقق التنمية والرخاء لشعبها، فقد يخرج هذا الأخير إلى الشارع للمطالبة بالعدل والعدالة الاجتماعية واستبدال الحكومة المعينة ديمقراطيّاً بحكومة أخرى. ثم توالت علينا في العديد من الدول ثلاث ظواهر: دول وصلت إلى بر الأمان بفضل الميثاق السياسي والتعاقدي بين النخبة السياسية في الحكم والنخبة السياسية في المعارضة، ورغم وصول حزب إسلامي إليها (وأعني هنا المغرب) فإن النضج السياسي ومتانة القشرة الحامية للبلد والمؤسسات مكن الفاعلين الجدد من العمل داخل مجال سياسي سليم دون زج الدين في السياسة، وأظن أن هاته المسألة مهمة يجب أن يفقهها جيداً الفاعلون الإسلاميون في المغرب علهم يتحولون من حزب إسلامي إلى حزب يميني محافظ تكون التجربة المغربية مثالا يحتذى به.. أما الظاهرة الثانية فهي دول أنقل بعض الفاعلين فيها مكائد السياسة ودناءة أساليبها إلى ساحة الدين، وباشروا أمور الإسلام بألاعيب الأحزاب وجعلوا من التدنيات السياسية والتلاعبات الحزبية مثلاً دينية عليا واكتسبوا من ضيق الأفق شدة، وازدادوا من ضحالة الفهم صلابة، ومن كثرة المغالطات وهماً بالصحة، واستفادوا من توالي التوكيد خيالا بالسلامة، واكتسبوا من تكرار الألفاظ بريقاً كاذباً وتصوروا من استمرار رفع الشعارات تحقيقاً قريباً للآمال والأحلام، ومما زاد الطين بلة هو التحاق الجهاديين التكفيريين بالقاطرة لتصل عملية التطرف والعنف والإرهاب مداها؛ والظاهرة الثالثة هو اجتماع «الميليشيات الجهادية» و»الميلشيات الإيرانية» في سلة واحدة في العديد من الدول كما هو حال العراق وسوريا واليمن.. فشباب وفئات المجتمع الواسعة التي خرجت إلى الشوارع للمطالبة بتغيير المنكر السياسي، فتحوا المجال لفاعلين لم يفهموا حقيقة السياسة وأهلها، وباشر بعضهم قواعد الانتخابات دون أن يفهموا معنى هاته المباشرة. ولله در المستشار محمد سعيد العشماوي عندما كتب أنه أراد الله للإسلام أن يكون دينا، وأراد به الناس أن يكون سياسة؛ والدين عام إنساني شامل، أما السياسة فهي قاصرة محدودة، قبلية محلية ومؤقتة. وقصر الدين على السياسية قصر له على نطاق ضيق وإقليم خاص وجماعة معينة ووقت بذاته. الدين يستشرف في الإنسان أرقى ما فيه وأسمى ما يمكن أن يصل إليه؛ والسياسة تستثير فيه أحط ما يمكن أن ينزل إليه وأدنى ما يمكن أن يهبط فيه وممارسة السياسة باسم الدين أو مباشرة الدين بأسلوب السياسة يحوله إلى حروب لا تنتهي وتحزبات لا تتوقف وصراعات لا تخمد وأتون لا يهمد، فضلا على أنها تحصر الغايات في المناصب وتخلط الأهداف بالمغانم وتفسد الضمائر بالعروض. لكل أولئك فإن تسييس الدين أو تديين السياسة لا يكون إلا عملا من أعمال الفجار الأشرار أو عملاً من أعمال الجهال غير المبصرين.. أما الجهاديون فمسألة أخرى، فقد تداخلت عوامل داخلية وخارجية دفعتهم للاصطدام بكل آليات المجتمع معتبرين أن قيم الثورات في نقيض تام مع الشرع والشريعة والحاكمية والخلافة والدولة الإسلامية.. وهم الآن في دول كليبيا وسوريا والعراق يصدرون فتاوى يشنون فيها حروباً على كل عقل سياسي ومجتمعي متحرك إلى أن وصلت أمصار إلى حالة «اللادولة»؛ أما الإيرانيون فقد قصدوا من وراء تدخلاتهم منذ البداية تقويض التحول السياسي في العراق وسوريا واليمن ولبنان. فظهر الجهاديون باسم الإسلام السني وظهرت الميلشيات المتأيرنة، واشترك الطرفان الجهادي السني والجهادي الشيعي المتأيرن في وقف عجلة الحياة السياسية في تلكم البلدان. هذا دون نسيان أن تفتت بعض البلدان كالعراق كان نتيجة لمشروع وطني أراد الفاعلون في المجال السياسي قيامه على مشاريع طائفية فكان مدفنه من هذه المشاريع الطائفية، والطائفيات لا تبني وطناً ولا دولة مدنية وإنما تبني خراباً وعقاباً وثأراً واقتصاصاً وتهميشاً للخصوم ونهباً للثروات وتفرداً بالسلطة وحرباً أهلية، وتولد فئات ضالة ومضلة كداعش وجبهة النصرة والقائمة تطول... والذي أخاف منه على المدى المتوسط ليس فقط هو كيفية القضاء على داعش أو الإطاحة بالأسد ولكن كيف لا نخرج على «قاعدة قبول الآخر» لأن ترميم الأوطان من أصعب المسائل وأعقدها، واندمال الجرح قد يحتاج إلى أجيال في حالة اللادولة والانقسام والتفتت الماسكة بخناقها..

مشاركة :