في مقال سابق كان محور الحديث عن تكفير السيئات والسُبل المؤدية إلى ذلك، ومن خلال نصوص الكتاب الحكيم يتجلى لكل ذي لُب شعاع الأمل الذي أراد الله أن يبثه في الكون ليكون نبراس العمل والماحق لأي نكوص وضيق بسبب سيئة هنا وأُخرى هناك، قانون أُسس على معرفة الخالق بنفس الإنسان الضعيفة التي تتقلب من حال إلى حال في تعاملاتها مع الذات الإلهية والآخرين، وأن الحال لا يستقيم على نهج واحد عند بني آدم فقد تعتريه حالات غضب وحزن وعوامل كثيرة أُخرى قد يتولد عنها خطأ «سيئة» هنا وسوء تصرف هناك، لذا شرّع لنا الله أبواب الأمل، حتى لا تضيق النفوس وتسكن للإحباط وتستنكف عن العمل بداعي القنوط. وقد اجتهدنا في أن نشرع في هذه الآية «الحسنات يُذهبن السيئات» لما لها من ارتباط وثيق يعقُب تكفير السيئات ولتتكامل الموضوعات لنكمل أو نحاول إكمال صورة الرحمة الإلهية على عباده، وأنى لمثلي القُدرة على رسم تلك الصورة ولكنها المحاولة والمُقاربة ولا أكثر من ذلك، فأي خطأ نرتكبه ما هو إلا قصور منا، وما نقارب فيه الصواب فهو بالضرورة بتوفيق الله جل جلاله. «من الحسنات نسلط الضوء على الإحسان، ولنستهل القول بآية كريمة من سورة البقرة 112 «بلى من أسلم وجهه لله وهو محسن فله أجره عند ربه ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون» «ونلتقط كلمة» مُحسن من الآية السابقة لنحاول - وسأظل أُكرر كلمة نحاول – التعرف على مدلولاتها فهي لا قيمة لها إن لم تكن مسبوقة بالتسليم لله ولله وحده تسيلمًا خالصًا لا تشوبه شائبة، هذا أولاً، والإحسان كما هو معلوم يناقض الإساءة ويتضاد معها كليًا، ويعترك معها بمعركة جدلية على مدى حياة الفرد المسلم، فلا أقل عند المسلم من تغليب الإحسان على الإساءة، والإحسان ومردوده يقع على النفس وعلى الآخر وليس لله منه نصيب فهو الغني عن الناس بالمعنى الشمولي للغنى. الفرد المسلم عنصر ضمن سلسلة هائلة من عناصر الوجود، وتعامله مع بقية تلك العناصر يجب أن يُؤَطَّر ضمن إطار الإحسان لا الإساءة «وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه وبالوالدين إحسانا...» الإسراء 23 هذا توجيه من الله إلى أقرب الحلقات إلى الإنسان وهم الوالدين وقد بُحثت كثيرًا حتى لم يعُد فيها زيادة لمستزيد، ولننظر إلى الحلقة التالية مباشرة من التوجيه الإلهي «واعبدوا الله ولا تُشركوا به شيئا وبالوالدين إحسانا وبذي القُربى واليتامى والمساكين والجار ذي القُربى والجار الجُنب والصاحب بالجنب وابن السبيل وما ملكت أيمانكم إن الله لا يحب من كان مختالاً فخورا» 36 النساء. الشمولية التي تتسم بها هذه الآية وتعميم الإحسان تسبب القشعريرة التي تتسيد الموقف عندما تُقرأ هذه الآية وتُهضم وتُترجم إلى سلوك مُعاش، حرص رباني على الإنسان لكونه إنسانًا، وما توسيع الدائرة، دائرة الإحسان لكل هؤلاء مع التنفير الشديد المُستشف من الخُيلاء والتيه على الناس إلا لجعل الحياة على هذه الأرض حياة بالمعنى الإنساني للحياة وليس بالمعنى البيولوجي البهيمي، تلطُف الله بالإنسان لا يُضاهيه لُطف، رسم الله لنا بآية واحدة أُسس الحياة الحضارية التي سوّد فيها المُفكرون عددًا لا متناهي من الصفحات، إنه قرآن مكنون، فيه شفاء للناس، شفاء نفسي وعضوي وفكري، فلله الحمد على سِعة رحمته. ونعود لنربط مقالا سابقا بالمقال الحالي من خلال التركيز على اتباع السيئة بالحسنة لتمحوها وننظر إلى الناس من جانب إحسانهم ونفعهم والتجاوز عما قد يبدُر منهم من هفوات لا يجوز تسميتها إلا بالصغائر والزلات والتي هي قرينة الإنسان لا تفارقه، وأبواب الإحسان كثيرة مُشرعة أمام النجاة والخلود في دار النعيم، وهي مطلب كل عاقل، فهناك الإحسان إلى النفس أولاً ويتجلى ذلك في عدة جوانب، منها جانب يختص بالجسد وصحته وما يرتبط بذلك من نظافة وطهارة ووقاية والاهتمام بالمظهر بحيث لا يصل إلى البذخ المُفضي للغرور وكفران النِعم، وجانب من الإحسان يُعنى بالنفس أو ما يطلق عليها البعض التقوى الفردية بإقامة الشعائر وتحري الطاعات الماحية للسيئات بلا ريب، وآخر وهو المُختبر الذي تتمحص فيه النفوس لأنه مرتبط عضويًا بالآخر، من صبر على الإيذاء وما يليه من تسامح ومن نصح وعون وإرشاد وإسناد للآخر المسلم وغير المسلم، فتصفو الحياة ويلذ العيش تحت ظلال الآية الكريمة السابقة. وتتعدد جوانب الإحسان وتتشعب لتشمل مرافق الحياة العديدة، وهذا مجال خصب للإنسان ليتخير ما يشاء لمضاعفة رصيده عند ربه كي تتحقق له الكفالة أو التغطية الربانية في حال حدوث السيئات وهي حادثة لا محالة، وهي كما شبّهناها سابقًا بالمعاملات المصرفية الحديثة حيث تغطي البنوك عملاءها أصحاب السوابق الحسنة لدى البنك في تجارتهم وبيوعهم، ومن أشكال الإحسان ما يخص المكان «البيئة» بيئة السكن أو العمل أو المنطقة التي نقطنها، وبحسب زعمي فإن هذا النوع من الإحسان غائب عن يومياتنا، ومشاهداتنا على مدار الأيام هي ما دفعتنا إلى قول ذلك، والإحسان إلى الأوطان ويتجلى بالغيرة عليه في الحل والترحال وفي كل لحظة وحين، والحيوان له نصيب من الإحسان في ديننا الحنيف، ويصعب علينا المُضي في سرد أوجه الإحسان في منظومتنا الفقهية لأنه نظام حياة وليس مجرد تعاليم مكتوبة بين دفتي المصحف الشريف. فهو قول وعمل بكل ما تحمله كلمة عمل من شمولية. ما أحرانا بإيجاد فقه خاص نطلق عليه «فقه الإحسان»، ما سيكون له أثر بالغ في حياتنا أفرادا وجماعات، ومن يساكنُنا سيلمس نعيم الإحسان الذي أوصى به القرآن العظيم «والجار الجنب» وأي مسلم يفقه هذا الجانب شبه المُغيّب من فقهنا سيكون سفيرا لدينه أينما حلّ وارتحل وما أعظمها وأجلها من سفارة تجذب ولا تطرد تُرغب ولا تُنفر. فالإحسان بلغة الكيمياء مُذيب للسيئات وفوقها الرحمة التي كتبها الله على نفسه، وكل العجب أن نخسر مع كل هذه الرحابة!!!!
مشاركة :