تفيد المعطيات الواردة من غزة بأن مسيرات العودة يوم الجمعة الماضي أودت بحياة سبعة من الفلسطينيين، بينهم طفل وفتاة، إضافة إلى 500 من المصابين، وذلك برصاص الجيش الإسرائيلي، بحيث أن عدد الضحايا الذين قتلوا على الشريط الحدودي، ضمن فعاليات مسيرات العودة، بلغ 204 من الفلسطينيين، بينهم أكثر من 33 طفلا، وذلك منذ انطلاقها في أواخر مارس الماضي، أي منذ ستة أشهر، وذلك بمعدل 34 شهيدا في كل شهر (في يوم الجمعة 14 مايو لوحده قتل 70 فلسطينيا)، علما أن بين هؤلاء الضحايا 32 طفلًا وثلاث نساء، وأن ثمة 20590 من الفلسطينيين أصيبوا بجروح مختلفة واختناق بالغازات، من بينهم 5200 بالرصاص الحي منهم 460 أصيبوا إصابة خطيرة. ثمة ثلاث حقائق يفترض إدراكها هنا. أولاها غياب أي أفق لتحصيل أي مكسب سياسي مقابل كل هذه التضحيات أو القرابين، في ظل الظروف الفلسطينية والعربية والدولية الراهنة، أي في ظروف تصدع البنى الدولتية والمجتمعية في بلدان المشرق العربي لا سيما العراق وسوريا، واختفاء أو انحسار مفهوم الصراع العربي – الإسرائيلي، مع تزايد مخاطر النفوذ الإيراني، ووجود إدارة دونالد ترامب في البيت الأبيض بسياساتها التصفوية للقضية الفلسطينية. وثانيتها أن عدد ضحايا مسيرات العودة كبير جدا، بل فاق عدد الضحايا الفلسطينيين في الانتفاضة الأولى (1987 – 1993)، والذي بلغ 1600 من الفلسطينيين، بمعدل 23 شهيدا في الشهر، وهو أمر ينبغي أن ينظر إليه بكل جدية ومسؤولية وطنية، بعيدا عن العناد والمزايدات. وثالثتها، أن مليوني فلسطيني في منطقة صغيرة، يدفعون ثمنا باهظا جراء سياسات حركة حماس، في مواجهة الحصار وشظف العيش والحروب المدمرة التي تشنها إسرائيل عليهم، دون تحقيق مكاسب سياسية أو إنسانية، وهذا من تجربة ثلاث حروب مدمرة شنتها إسرائيل على غزة، مع كل ما قدمه أهل غزة من تضحيات وبطولات. فالحرب الأولى، بين 27 ديسمبر 2008 و19 يناير 2009، أدت إلى مصرع أكثر من 1436 فلسطينيا، وإصابة أكثر من 5400 آخرين، في المقابل اعترفت إسرائيل بمصرع 13 إسرائيليا بينهم 10 جنود وإصابة 300 آخرين. والحرب الثانية بين 14 نوفمبر و21 نوفمبر 2012، ذهب ضحيتها 155 من الفلسطينيين والمئات من الجرحى الضحايا مقابل ثلاثة إسرائيليين. أما في الحرب الثالثة، بين 8 يوليو و29 أغسطس 2018، فقد نجم عنها مصرع 2174 من الفلسطينيين مقابل مقتل 70 إسرائيليا منهم 64 جنديا. في المحصلة لدينا أكثر من أربعة آلاف شهيدمن وعشرات الألوف من الجرحى، بينهم الألوف من المعاقين، ودمار هائل لبيوت وممتلكات شخصية وعامة، مقابل مصرع 86 إسرائيليا، في ستة أعوام فقط. ومن كل ذلك يتبين أن ثمة كارثة إنسانية كبيرة في غزة تتمثل بهذا الحجم الهائل من الجرحى والمعوقين. وفي الواقع، فإنه منذ هيمنة حماس على قطاع غزة في العام 2007، أي منذ 11 عاما، بدا واضحا أن تلك الحركة غير قادرة على استثمار أخذها السلطة في تلك المنطقة، لأسباب تتعلق بطبيعتها وخبراتها السياسية وإمكانياتها المادية المستندة إلى الدعم الخارجي، وتتعلق بطبيعة النظام السياسي الفلسطيني (المنظمة والسلطة) الذي تسيطر عليه حركة فتح منذ نصف قرن، كما تتعلق بأسباب خارجية ناجمة عن الممانعة والعقبات والضغوطات الدولية والعربية، والحروب الإسرائيلية التي تواصلت على القطاع منذ ذلك الحين. هكذا فإن حماس، لأسباب ذاتية وموضوعية، لم تنجح في فرض مكانتها كقيادة بديلة للشعب الفلسطيني، إذ أنها لم تستطع تقديم نموذج للسلطة أفضل من ذلك النموذج في الضفة، الذي تديره حركة فتح، لا سيما مع احتكارها السلطة وتدخلاتها في شؤون عيش الناس وسلوكياتهم وخصوصياتهم، مغلبة في ذلك طابعها كحركة إسلامية على طابعها كحركة وطنية، ومغلبة في ذلك كونها سلطة على كونها حركة تحرر وطني، مثلها مثل حركة فتح في الضفة. إضافة إلى ما تقدم فإن هذه الحركة لم تستطع ترجمة برنامجها الخاص باستمرار المقاومة المسلحة، بأي شكل، سواء في العمليات الفدائية أو في الهجمات الصاروخية، إذ أنها وصلت من ذلك إلى التحول نحو استخدام الطائرات الورقية الحارقة ومسيرات العودة، على حدود غزة، منذ ستة أشهر، رغم الأثمان الباهظة وانسداد الأفق، ومن دون أن تقدم على أي مراجعة لهذا العمل. وربما يجدر التذكير هنا بأن حماس تسيطر على منطقة صغيرة جدا تساوي 1.3 بالمئة من مساحة فلسطين التاريخية، وهي منطقة فقيرة بالموارد، إلا أنها مكتظة بالسكان، إذ يعيش فيها حوالي مليونين من الفلسطينيين في صعوبة بالغة وفي ظل نسب بطالة عالية بين الشباب، بسبب قلة فرص العمل وندرة الموارد والحصار المفروض على القطاع منذ أكثر من عشرة أعوام. قصارى القول، ومع تفهّم الصعوبات والمداخلات الخارجية، فإن إدارة حماس للقطاع اتسمت بالاضطراب، وعدم الوضوح، وبغياب استراتيجية واضحة، فهي لم تعرف ماذا تفعل بالقطاع، فهل هو قاعدة لتحرير فلسطين مثلا أم هو قاعدة للمقاومة لدحر الاحتلال من الضفة أم أنه منطقة تم انتزاعها من الاحتلال ما يتطلب بناء المجتمع والاقتصاد فيها، واعتبارها بمثابة نموذج أو مقدمة للدولة الفلسطينية المقبلة؟ نعم لقد أثرت حماس في قطاع غزة، في المجتمع وفي النظام السياسي وفي المفاهيم وفي المكانة، ولكن القطاع تأثر بها كثيرا أيضا، وأكبر دليل على ذلك أن حماس وصلت مؤخرا إلى حيث انتهت فتح عام 1993، وإن بمصطلحاتها وبادعاءاتها الخاصة، التي لا تختلف كثيرا عن مصطلحات وادعاءات فتح، كما أنها انتقلت من العمليات التفجيرية والحرب الصاروخية إلى الطائرات الورقية ومسيرات العودة، وهي مسيرة يفترض مراجعتها وتفحص نتائجها أو جدواها لاستنباط الدروس المناسبة منها.
مشاركة :