القاهرة - يمكن لأي شخص يمر صدفة أمام أي مدرسة مصرية حكومية أن يستشف لهفة أولياء الأمور على أبنائهم، وانتظار لحظة خروجهم للاطمئنان عليهم، وأنهم أنهوا اليوم الدراسي في أمان، لشعور معظمهم أن البيئة المدرسية المتهالكة والصورة الذهنية السيئة عن تصرفات بعض المعلمين، أصبحتا خطرا يهدد سلامة أبنائهم، على أمل أن تساهم خطة تطوير التعليم الجديدة في تغيير هذا الوضع. تحدث طارق شوقي، وزير التربية والتعليم، مع بداية تطبيق خطة التطوير، بنبرة توحي بعدم التفاؤل من تغيير ثقافة المجتمع، بعد ملاحظته اتساع دائرة الرفض للنظام الجديد، وقال “بينما نحن نتحرك في ثورة تاريخية ومعرفية وإذا بحملة ممنهجة تنطلق وتتحدث بنغمة كثافة الفصول وتحاول أن تلقي الضوء على مشكلة ورثناها بعد سنوات طويلة من إهمال التعليم وكأن الآفة الوحيدة في التعليم المصري هي العدد الكبير للتلاميذ”. يعتقد شوقي أن حالة التربص لكل محاولات الإصلاح “مصيبة كبرى، وكيل الاتهامات يستدعي التأمل في أسبابها، واستمرار هذه الحالة ببث اليأس والإحباط والتجاوز في حق الآخرين بلا دليل، والسباب ليل نهار، سوف يفسدان فرص الإصلاح”. تقول الأم عبير حلمي، وهي أم لطفل عمره 6 سنوات، يدرس في مجمع متولي الشعراوي بحي المطرية بالقاهرة، إنها “تشعر دائما بأنه قد يتعرض لأذى في أي وقت، لأن المدارس لم تعد بيئة آمنة للتعليم.. فهناك من يُقتل، ومن تسقط على رأسه نافذة فصل، وفي نفس الوقت لا تسمح ظروفي المادية بتعليمه في مدرسة خاصة”. تدور مناهج نظام التعليم الجديد في المرحلة الابتدائية، حول إعادة بناء الإنسان منذ نعومة أظافره، حيث يتعلم الطفل “من يكون؟ من هي أسرته، عائلته، وطنه، القارة التي يعيش فيها؟ طريقة تكوين الأسرة، آلية احترامه للآخرين، التعايش مع المجتمع المحيط وشغفه بالذهاب إلى مدرسته، وهكذا”. تتذكر عبير، حديث طارق شوقي وزير التعليم، عندما قال عند طرحه للنظام الجديد، أن المدارس أصبحت سجنا كبيرا، والحكومة لا تريد استمرار ذلك، وتقول في حديث مع “العرب”، “إنهم يريدون استمرار نفس السجن مع تغيير أفكار السجان ومحاولة تغيير أفكار السجين.. وهذا خطأ، لأنه لا يمكن تحقيق أهداف النظام الجديد، والخريجون الجدد أسوياء ومتسامحون وباحثون جادون وهم معقدون نفسيا كلما ذكرت أمامهم سيرة المدرسة”. يعكس حديث الأم أن نظام التعليم الطموح يصطدم ببيئة مدرسية واجتماعية وثقافية شديدة التعقيد، قد تحول دون تحقيق أهدافه كاملة، في مرحلة التعليم الابتدائي أو الثانوي، وهما يشملهما التطوير، وبدت وزارة التربية والتعليم أنها تتحرك في اتجاه معاكس تماما للواقع المتردي في المدارس، بعدما أخفقت في تكوين ظهير سياسي واجتماعي وتربوي خلفها، يدافع عن سياسات الحكومة في ملف تطوير التعليم. تجاهل الرأي العام بدأت بوادر الإحباط تتسرب عند المسؤولين عن منظومة التعليم في مصر، مع تجاهل الرأي العام الحديث عن وجود تغيير إيجابي بالفعل، برغم بدء الموسم الدراسي وتركز النقاش والجدل في وسائل الإعلام وعلى مواقع التواصل الاجتماعي حول الظواهر السلبية وتدهور حال البيئة المدرسية وخيال وزارة التعليم وعدم تناغم الأفكار والطموحات مع واقع قاتم. يستهدف النظام الجديد 2.5 مليون طفل ممن يلتحقون لأول مرة بالمدارس، تتخرج أول دفعة منه عام 2030، وهو توقيت انتهاء استراتيجية التنمية المستدامة، بحيث يكون هناك بعد 12 عاما خريج مصري معاصر يتزامن وصوله إلى الجامعة مع الانتهاء من إعادة بناء أركان الدولة، أما طلاب الصف الأول الثانوي الذين التحقوا بنظام الثانوية التراكمية فتتخرج أول دفعة منهم عام 2021. يعول الرئيس المصري عبدالفتاح السيسي على النظام الجديد في بناء دولة ذات قوام راسخ، فكريا وثقافيا وتنمويا وسياسيا، تستطيع منافسة بعض البلدان المتقدمة، لكن طموحاته ولغة خطابه للشارع، التي ترتبط بأهداف التطوير، لا تحظى بقبول أو ظهير مجتمعي قوي، ويمكن فهم ذلك في ارتفاع نسبة الأمية بين السكان، كما أن تهالك أبنية المدارس نفسها، لا يوفر بيئة خصبة لتحقيق الطموحات الرسمية المطلوبة. يقوم النظام الجديد في مرحلة التعليم الابتدائي على ابتكار مناهج معاصرة، تستطيع الحكومة من خلالها إعادة بناء الإنسان المصري منذ الصغر، بحيث تحافظ المناهج على الهوية من الضياع بترسيخ التعليم باللغة العربية في الصفوف الابتدائية بالمدارس الحكومية التي يدرس فيها 86 بالمئة من طلاب مصر. يرمي التطوير في مرحلة الثانوية العامة إلى توزيع الامتحانات المؤهلة للجامعات على الصفوف الثلاثة، بدلا من اقتصارها على الصف الثالث فقط، مثل المعمول به حاليا، مع تغيير طريقة التقييم، إلى الاعتماد على أسئلة الفهم وليس الحفظ، والانتقال إلى التعلم الرقمي، بتسليم جهاز “تابلت” مجانا لكل طالب، يذاكر ويمتحن من خلاله، ويتم تصحيح الامتحانات إلكترونيا، على أن يتم توصيل المدارس الثانوية بشبكة الإنترنت. أزمة الحكومة أنها تتعامل مع تطوير التعليم كمشروع تريد خروجه سريعا لبر الأمان ليضاف إلى إنجازاتها، ومشكلة القائمين على المنظومة الجديدة أنهم لم يدرسوا الواقع قبل التطبيق لقياس الفرص والتحديات لكن، ما زال إخفاق حكومات السيسي في تطبيق تجربة التعلم الإلكتروني منذ عام 2014، يشكل هاجسا لدى أولياء الأمور، وتم آنذاك استبدال الكتب المدرسية بالتابلت، وتوزيع الأجهزة على طلاب المحافظات الحدودية وبعد مرور أقل من شهر على بدء الدراسة دخلت التجربة النفق المظلم، ما اضطر الوزارة إلى طباعة الكتب سريعا، وتوزيعها على الطلاب. كانت مقدمات الإخفاق في تطبيق التجربة السابقة، أن الأجهزة لم تحتمل الاستخدام طوال اليوم الدراسي بشكل مستمر دون شحنها بالكهرباء، ولم تكن تتوافر الوصلات الكهربائية لذلك داخل الفصول، بشكل يكفي جميع الطلاب، كما أن شبكة الإنترنت لم تكن متوافرة حتى مع وجود شرائح اتصالات مع الطلاب، فضلا عن تكرار الأعطال بالأجهزة نتيجة سوء الاستخدام. تكمن أزمة الحكومة المصرية في أنها تعاملت مع تطوير التعليم، مثل أيّ مشروع قومي تريد إنهاءه سريعا ليضاف إلى قائمة إنجازاتها، دون اكتراث بأن هذا الملف يحتاج إلى إرادة مجتمعية، أكثر منه سياسية، ويتطلب الأمر إثبات قدرة الحكومة على التغيير لتذليل مخاوف الناس من الإخفاق أو التحرك بعشوائية، ويجد أولياء الأمور أبناءهم في حقل تجارب لأفكار وزير التعليم، مثلما كان يحدث خلال عهد وزراء سابقين. تعهدت الحكومة بتسليم التابلت لطلاب الصف الأول الثانوي، مع بداية العام الدراسي، ثم عادت لتؤكد أن ذلك لن يكون قبل شهر أكتوبر، وفي مرة ثالثة ذهبت إلى أن أول امتحان إلكتروني سيتم في يناير إلى حين انتهاء توصيل الإنترنت إلى المدارس، ما يعني أن بداية التعلم الإلكتروني سيبدأ منتصف فبراير المقبل، مع بداية الفصل الدراسي الثاني، الأمر الذي جعل الناس تشعر بأن الحكومة غير مؤهلة لتطبيق الثانوية الجديدة. تزامن مع ذلك عدم وفاء وزارة التعليم بتعهداتها الخاصة بوصول كتب نظام التعليم الجديد إلى المدارس قبل بدء الدراسة، وعندما قالت إن معلمي النظام الجديد اكتمل تدريبهم، خرج بعضهم وتحدث عن “عدم فهم أي شيء في التدريبات”، ما اعتبرته الوزارة تجاوزا في حقها، وأحالت بعض المعلمين إلى التحقيق ومعاقبتهم، حتى ظهرت الحكومة أمام الرأي العام بأنها تريد التغطية على إخفاقها مبكرا في النظام الجديد. بناء العقول وبناء الجدران يكمن جوهر الخلاف في أن النظام يتمسك ببناء العقول قبل الجدران، أي ترميم وتحديث المدارس وبناء أخرى تستوعب حجم الكثافات الطلابية، بينما يرفض المعلمون والأسر هذا المنطق، بذريعة أن العقول لن تُبنى بطريقة عصرية في بيئة متهالكة. تقول الحكومة إن بناء مدارس جديدة تقضي على الكثافات الطلابية في المدارس يتطلب 100 مليار جنيه (نحو 6 مليارات دولار)، في حين لا تسمح الميزانية بتوفير هذا المبلغ، ولأن النظام التعليمي القائم لا يمكن ترميم قوامه خطر على بال البعض أن الأولوية كانت لبناء نظام جديد، على أن تكون الجدران خطوة لاحقة عندما تتوافر الإمكانيات المالية. وقعت الحكومة قرضا مع البنك الدولي بقيمة 500 مليون دولار، على أن يوجه لصالح نظام التعليم الجديد، ولن يتم إنفاق دولار واحد من هذا المبلغ على بناء أو إصلاح أي مدرسة، سوى تطوير التعليم، من مناهج وطرق تدريس وتدريب معلمين وتحديث نظم الامتحانات، وتحتاج أضعاف هذا المبلغ للإنفاق على متطلبات المنظومة الجديدة إلى حين انتهائها كاملة. يرد بعض المعارضين للتحجج بانخفاض الميزانية، أن الحكومة تعتبر الإنفاق على المشروعات القومية أهم من دفع بضعة ملايين لتحسين البيئة التعليمية، ويتساءل هؤلاء: أيهما أولى، بناء عاصمة إدارية جديدة والتوسع في شبكات الطرق والكباري، أم توفير هذه المبالغ لبناء مدارس جديدة توفر بيئة خصبة لنجاح النظام الجديد، كمدخل لتغيير ثقافة وفكر المجتمع برمته، وتقوية أساسه وابتعاده عن دوامة التفكك؟ وتؤكد زكية رزق، وهي معلمة لطلاب الصف الأول الابتدائي بإحدى مدارس القاهرة، أنها “تدرس لنحو 100 طالب داخل قاعة لا تسع لأكثر من 40 طالبا، ويستحيل التواصل مع كل هؤلاء والشرح بطريقة تربوية، ومتابعة مستواهم الدراسي، أو حتى التدريس وفق طريقة النظام الجديد، بأن يعتاد الطلاب التشاور مع المعلم والنقاش الجماعي في ما بينهم.. هم وضعوا نظاما لا يتناسب تماما مع البيئة المدرسية”. وتضيف لـ”العرب” أن “التدريبات التي تلقاها المعلمون على نظام التعليم الجديد خيالية، بمعنى أنها غير ملائمة للتطبيق الفعلي.. فقد تدربنا على أن يجلس الطلاب في حلقات، وليس خلف بعضهم، حتى يتعودوا على التواصل والترابط والتلاحم بعيدا عن الانقسام، كأحد الأهداف التربوية للمناهج الحديثة، لكنهم لا يدركون استحالة ذلك، لأن المقاعد ملتصقة، ويكاد يجلس الطلاب فوق بعضهم من شدة التكدس″. Thumbnail تكمن أزمة القائمين على المنظومة الجديدة، في أنهم شخصيات لم تدرس البيئة المدرسية أو تنزل إلى أرض الواقع لمعرفة التحديات، وبعضها تحمل ثقافة أوروبية، فمثلا وزير التعليم نفسه عاش 17 عاما في الولايات المتحدة الأميركية، وعاد إلى القاهرة قبل 11 عاما للعمل كأستاذ في الجامعة الأميركية، قبل أن يرأس المجالس الاستشارية للتعليم التابعة لرئاسة الجمهورية، ويتم اختياره المسؤول الأول عن التعليم قبل عامين. يوازي ذلك، أن طارق شوقي استعان بمجموعة من الأكاديميين في وضع أهداف وتصورات وخطة النظام الجديد، ولم يعملوا من قبل في المدارس، وبعضهم كانوا في جامعات دولية، ولم يكن بينهم معلم أو معلمة انخرط والتحم مع واقع البيئة المدرسية بشكل مباشر، ورصد تدهور البنى التحتية، ووجود معلمين غير تربويين جرى تعيينهم بالوساطة دون معايير موضوعية. تسببت الفجوة الفكرية والثقافية بين واضعي نظام التعليم الجديد، والمعلمين ومديري المدارس، في تفاوت السرعات، وأحيانا العداء المستتر، لأن المعلمين باعتبارهم الطرف الأهم في تنفيذ أبجديات التطوير، تذمروا لعدم مشاركتهم أو السماع لوجهة نظرهم وفتح حوار موسع معهم عند تحديد شكل وطبيعة التطوير. تعاملت معهم الحكومة بسياسة الأمر الواقع دون إدراك بأن الثقافة التربوية والفكرية لأكثرهم يصعب تغييرها في بضعة أشهر، أو عبر دورات تدريبية على يد خبراء دوليين، للانتقال من نظام تعليمي روتيني وعقيم، إلى آخر معاصر يخاطب تطورات العصر وينسف كل ما بنوه خلال سنوات عملهم الماضية. قال أحمد خيري، الناطق باسم وزارة التربية والتعليم لـ”العرب”، إن أكثر فئات المجتمع لا تؤمن بمزايا النظام الجديد، لأنها مرت بتجارب مريرة تسببت في حالة من غياب الثقة بين الشارع والحكومة، وهناك أطراف لها مصالح خاصة، ترفض نجاح المنظومة الجديدة، مثل معلمي الدروس الخصوصية، لأن المناهج وطريقة التقييم الجديدة، لا تعتمد على الحفظ، بل الفهم، في حين أن التلقين، أساس دور المعلم الخصوصي. وأوضح “لو بدأت وزارة التربية والتعليم في بناء المدارس أولا، لم تكن لتتحرك خطوة للتطوير، في حين أن النظام القائم ضد خطط الدولة التنموية والفكرية والثقافية.. لدينا 600 ألف طفل يدخلون التعليم سنويا فوق الكثافة، كمواليد جدد، وهذا يتطلب وعيا مجتمعيا بضرورة معرفة التحديات، لكن الأزمة في ثقافة تقبل التغيير، وهذا يأخذ وقتا لتطوير فكر المعلم وثقافة تعامله مع الطلاب، وفكر أرباب الأسر بأن النظام الجديد يصب في صالح أبنائهم”.
مشاركة :