اللغة العربية في المدارس الفرنسية .. حلم يتحقق

  • 10/4/2018
  • 00:00
  • 1
  • 0
  • 0
news-picture

نبّه الشاعر الكبير أحمد عبدالمعطي حجازي إلى معركة مثارة في المجتمع الفرنسي نحن جميعًا طرف فيها، وهي مشروع وزير التعليم الفرنسي لتدريس اللغة العربية كلغة أجنبية ثانية في المدارس الفرنسية إلى جانب عدة لغات مثل: الإنجليزية والإسبانية، وغيرهما. وذكر حجازي في مقاله المنشور يوم الأربعاء الماضي بجريدة "الأهرام" أن الشرارة التي بدأت منها هذه المعركة هي المشروع الذي أعلن عنه وزير التربية الوطنية الفرنسي جان ميشيل بلانكيه ويقضي بأن تكون اللغة العربية إحدى اللغات التي يتعلمها التلاميذ الفرنسيون في مدارس فرنسا كلها ابتداء من المرحلة الابتدائية بدلًا من أن يتأخر تدريسها إلى المرحلة المتوسطة، وأن يكون محصورًا في مناطق دون أخري. وكانت الحكومة الفرنسية قد بدأت الخطوة الأولى فى هذا المشروع قبل عشر سنوات حين قررت أن تتيح لمن يريد من التلاميذ العرب في مناطق بالذات أن يتعلم العربية بداية من المرحلة الابتدائية ليتمكن منها في المراحل التالية. قامت قيامة المعارضة الشاعر والكاتب ثم جاءت الحكومة الحالية لتعمم هذا المشروع في كل أنحاء فرنسا، وهنا قامت قيامة المعارضة وخاصة أحزاب اليمين واليمين المتطرف تستنكر وتطالب بإعطاء الوقت الذي سيخصص لتدريس العربية، والمال الذي سينفق في هذا المشروع لدعم اللغة الفرنسية. وزعم هؤلاء المعارضون أن وزير التربية يسعى لجعل العربية إجبارية في المدارس الفرنسية، ومنهم من قال إن الذين اصدروا هذا القرار يسعون لتعريب فرنسا، ومنهم من قال إن وزير التربية يجامل العرب والمسلمين على حسابنا، وآخرون يعبرون عن خوفهم من أن يؤدى تعليم العربية فى المدارس الحكومية إلى إقحام الإسلام فى التربية الوطنية. وهذا ما تصدى له الوزير وكذَّبه في حديث قال فيه: لم يحدث أبدًا أني قلت إن اللغة العربية ستكون مادة إجبارية في المدارس الفرنسية، وإنما ستكون مثل غيرها من اللغات الأجنبية التي يستطيع الطلاب الفرنسيون أيًا كانت أصولهم العرقية أن يتعلموها إذا أرادوا، مثلها في هذا مثل الروسية والصينية وغيرهما من اللغات الأجنبية التي قررت وزارة التربية تدريسها في فرنسا لأنها تعرف قيمتها. ومن هامبورج بألمانيا يقول المهندس عيسى بيومي: بالطبع أثار ذلك شك اليمين المتطرف في دوافع هذا المشروع وهاجموه على خلفية سياسية قومية ثقافية. لفت حجازي الانتباه إلى مسؤليتنا - كأصحاب لتلك اللغة - ألا نقف من هذا الجدل المحتدم موقف المتفرجين، وهو بلا شك محق في دعواه. أضيف إلى ذلك أن إظهار الحقيقة مسؤولية مطلقة تستوجب كل الانتباه. فاللغة تؤدي دورًا جوهريًا في بناء ثقافات الشعوب، وحفظ ذاكرتهم وتدفق تاريخهم، وهي مسألة متعددة الجوانب. ما يهم فيما أثاره المقال هو كيف نظهر الحقيقة لمن يدفع بالباطل ليشوه مقاصد هذا المشروع. هنا يجب أن نلاحظ أمرًا مهمًا وهو أننا نخاطب عقولًا لفرنسيين يعيشون في بلد يسمح بالشك في المألوف ويشجع التساؤل فيما قد يبدو يقينًا. ما يطلق عليه اليمين المتطرف لم يخالف الدستور، بل يمارس نشاطه ويعلن آراءه في الجمعية الوطنية والميديا الفرنسية. ما أعنيه هو أن الدفاع عن اللغة العربية من أجل المستوطنين العرب في فرنسا يجب أن يكون بوسائل الديموقراطية الفرنسية حتى يمكن أن يدل الباحث الأمين إلى الحقيقة. الجانب الآخر من المسألة الذي أشار اليه الشاعر حجازي في مقاله وهو الفصل بين اللغة والدين في مجتمعاتنا العربية خاصة في نظم التعليم المتعددة؛ جانب مهم وجوهري لكنه لا يتأتي بقرار، بل يتطلب تطورًا في وعي المجتمع لمعنى حرية الفرد وكيف تصان منذ طفولته حتى يصبح مواطنًا مسؤولاً. ومن تونس يوضح الباحث أصيل الشابي أن الوزير الفرنسي دعا في 10 سبتمبر/أيلول 2018 على قناة ب ــ ف ــ م التلفزيّة إلى إدراج تعليم اللّغة العربيّة ضمن المواد الاختياريّة في المستوى الابتدائي إلى جانب لغات أخرى كالروسيّة والصينيّة، غير أنّ اللّافت للانتباه أنّ اليمين عارض هذه الخطوة، واعتبر بعضهم أنّ هذا يهدّد بتعريب فرنسا، وحذّر اكزافييه برترون على موجات فرنسا الدوليّة يوم 12 سبتمبر/أيلول من أنّ تعليم العربيّة يهدّد المجتمع بالطائفيّة، علمًا بأنّ الوزير الفرنسي نفى يوم 11 سبتمبر/أيلول إجباريّة تعليم العربيّة، كما أشار إلى أنّ صيغ تعليمها ستدرس وتُدقّق. كما يذكر أصيل أنّ تقريرًا قدّمه حكيم القروي من معهد مونتاني جاء فيه أنّ عدد متعلّمي العربيّة في المدارس الإعداديّة والثانويات الفرنسيّة قد هبط إلى النصف، بينما تضاعف عشر مرّات في المساجد، ليخلص إلى التوصية بدعم تعليم العربيّة في المدارس لتجنّب تلقّي الشباب لها في دور العبادة والمدارس القرآنيّة المحرّضة على الإرهاب. حجازي بالغ قليلًا في تحمسه لموقف الوزير الفرنسي. رشيد بنحدو ويعرب الشابي عن أن المقلق في هذا الجدل يكمن في الربط بين اللّغة العربيّة تحديدًا - من جهة - والطائفيّة والإرهاب - من جهة ثانية - وتسييس ما دعا إليه الوزير الفرنسي وإخضاعه لمنطق إيديولوجي ضيّق يتعارض مع أبسط مقولات التواصل بين الثقافات والمجتمعات، وكأنّ اللّغة العربيّة لا تتلاءم مع المدنيّة والحضارة. ولعلّ في النقد الموجّه إلى لغتنا نبرة عنصريّة جديدة عمل وزير التربية الفرنسيّ على محاصرتها بتأكيده قيمة اللّغة العربيّة، ولاسيّما أدبيًا وجماليّا، وضرورة تعلّمها، كما حاصرتها الصحافة الفرنسيّة، فقد كتبت آنا أييل دورين في جريدة "لوموند" في 14 سبتمبر/أيلول أنّ مخاوف المنتقدين لا أساس لها لأنّ اللّغة العربيّة تدرّس في المدارس الفرنسيّة، والإقبال على تعلّمها ضعيف بطبعه، وعلّلت ذلك بإحصائيات. ويتساءل أصيل الشابي: فأين نحن من هذا؟ وأين جاليتنا العربيّة في المهجر من كلّ هذا؟ إنّه جدل مضحك لأنّ صانعيه جاهلون بواقع التنوّع الفرنسي، ولكنّه مبكي لأنّه مُصوّب لوأد لغة من بين لغات أخرى تحت عناوين مغالطة وفوضويّة وعنصريّة وتحت أنظار من استفزّهم حجازي ووخزهم. وكأنّني بنداء شاعرنا يُلبّى على لسان وزيرة الخارجيّة النمساويّة كاريل كنايسل التي افتتحت خطابها يوم السبت 29 سبتمبر/أيلول باللّغة العربيّة من أعلى منبر الأمم المتّحدة واصفة إيّاها حرفيًّا بالمهمّة والجميلة، وبأنّها جزء من الحضارة العربيّة المهمّة، إضافة إلى أنّها من بين اللّغات الستّ المعتمدة في الأمم المتّحدة، إنّها أحداث متسارعة ارتبطت بلغتنا الجميلة وارتفع صداها عاليًا، للأسف الشديد، بعيدًا عن معظم أبنائها. حماية بعض الحقوق المكتسبة كعلمانية التعليم والدولة د. رانيا علي ومن مدينة فاس المغربية العريقة يقول العالم والناقد والمترجم البارز الدكتور رشيد بنحدو: لقد تابعت، في الصحافة الفرنسية، الجدل حول هذا الموضوع، وأرى أن عبدالمعطي حجازي، قد بالغ قليلًا في تحمسه لموقف الوزير الفرنسي. فمن حق بعض الفرنسيين أن يعترضوا على المشروع. علمًا بأن الوزير برَّر فكرته بضرورة الانفتاح على الحضارة العربية في لغتها بالذات، أعني من غير لجوء إلى لغة وسيطة. تصور مثلًا أن وزير التعليم بمصر سيطالب بتدريس اللغة اليونانية بذريعة أنها لغة التراث الفلسفي الهيليني الذي تنهض عليه الفلسفة الغربية التي يجب على الفكر العربي أن يتفاعل معها! ومن تورونتو بكندا توضح الدكتورة رانيا علي أستاذة اللغة والأدب الفرنسي أن تلاميذ المدارس في فرنسا يختارون تعلم لغة أجنبية من بين عدة لغات، واللغة العربية هي بالفعل ضمن الاختيارات، ولكن في بعض المناطق. وهي تكشف أن المشروع الجاري طرحه يهدف لتعزيز تعليم اللغة العربية لإتاحتها كاختيار ضمن الاختيارات الأخرى في عدد أكبر من المناطق. فالموضوع - قبل أي شىء - يتعلق بتعليم لغة في المدارس، وقبل خلطه بأية قضية أخرى، يجب التذكير بأن المواطن الفرنسي معني بشكل مباشر بهذا الأمر بما أنه يدفع ضرائب باهظة ينفق منها على التعليم الأساسي، وهنا مربط الفرس، فمثل هذا المشروع يستلزم ميزانية، ودراسة ومناقشة، وهذا ما يتم بالفعل حتى وإن كانت هذه المناقشة تتطرق لموضوعات قد تبدو بعيدة عن لب القضية، مثل: العلاقة بين تعليم العربية في مساجد فرنسا وتطرف بعض العناصر، أو أولوية إنفاق المال على إجادة تعلم اللغة الفرنسية، أو علاقة تعليم العربية بالنصوص الدينية وحماية بعض الحقوق المكتسبة كعلمانية التعليم والدولة. وفي جامعة المنيا في صعيد مصر نتعرف على رأي واحد من أهم المتخصصصين في هذا المجال الدكتور محيي الدين محسب، أستاذ العلوم اللغوية الذي يشير إلى أنه من وجوه التحديات المعاصرة التي تنخرط فيها اللغة العربية وجهُ تعزيزِ مكانتها الدوليةِ عَبْـرَ تعزيزِ وجودِها في فضاءات عالمية أكثر تأثيرًا في حركة التاريخ الإنساني المعاصر. ولكن هذا الوجه بالتأكيد يتطلب سبر واقع هذه اللغة في هذه السياقات الدولية، ويتطلب تقييمًا موضوعيًّا وعلميًّا لهذا الواقع، والتعريف بحال استخدامها فيه، ونوعية هذا الاستخدام، والفرص المتاحة للعربية، والتحدياتِ التي تواجهها فيه. والمأمول من وراء هذا التقييم هو أن تعكس خطط تعزيز نشر العربية غاية مهمة؛ وهي أن يتحول تعلمها إلى مطلبٍ يحقق مصالح فعلية لأصحاب هذا المجتمع أو ذاك. ولأن الموضوع شاسع الأبعاد فإنني سأركز الإشارة إلى مسألة بالغة الخطورة في هذا السياق. وهي أن أشد مصادر المقاومة لنشر تعليم العربية في بيئة دولية كالبيئة الفرنسية أو غيرها، هو أن الوجه الذي يطل منه تعليم العربية هو نفسه الوجه الذي يطل منه التبشير بالدين الإسلامي. ولا شك أن مثل هذه الدعوات تفضي إلى خلق صدامٍ لا مسوغ له مع الانتماءات الوطنية. ومن يراجع خطاب دعاة تعليم العربية في فرنسا يجد أنهم في غالب الأحيان لا يقدمون ذلك المطلب اللغوي المتمثل في الدعوة إلى تعليم العربية في المؤسسة التعليمية باعتباره أمرًا ذا قيمة حضارية، وذا غاية تصب في تحقيق اندماج المواطنة العادلة وتعزيز الوحدة الوطنية مع الاحتفاء بالتنوع الثقافي. كثيرًا ما يتجه هذا الخطاب إلى القول بأن تعليم العربية يكرّس الهوية الدينية للغة العربية. وفي أحيان أخرى يكرس الشعور بالامتياز أو الخصوصية عن الآخر؛ بما قد يولّده ذلك من أشكالٍ مختلفة من الصراع والمواجهة. وأتصور أن الانطلاق من سياسة لغوية سديدة في هذا المجال بحاجة ماسة إلى عدم الانزلاق في متاهات أيديولوجية تُفاقِمُ المشكلاتِ أمام الراغبين في الإدارة الفرنسية عن اقتناع حضاري واجتماعي وثقافي وسياسي أن يدخلوا العربية في مسار المنظومة التعليمية الفرنسية. سبر واقع اللغة د. محيى الدين محسب إن تقديم تعليم العربية من منظور التأسيسات العلمية القارة في اللسانيات التعليمية، ومن خلال ربط محتواها التعليمي بالقيم الإنسانية المشتركة، وبقيم الدولة المدنية الحديثة، هو المدخل الصحيح لتعزيز المكانة التعليمية للعربية في أي بيئة من بيئات العالم المعاصر. الدكتور ماجد الصعيدي، الأستاذ بقسم اللغة العربية بكلية الألسن بجامعة عين شمس يؤكد أن اللغة العربية اليوم تعيش أحد عصور ازدهارها وانتشارها الواسع بفضل وسائل الاتصال الإلكترونية. فهي اليوم واحدة من أكثر لغات العالم انتشارًا، وهي إحدى اللغات الست المعتمدة في هيئة الأمم المتحدة والمنظمات الدولية التابعة لها. ومن المعروف أنها أصبحت لغة رسمية بالجمعية العامة للأمم المتحدة ولجانها الرئيسية. ولا يمكن الحكم على وضع اللغة العربية من خلال وضعها الراهن في مجتمعات المنطقة العربية فقط، فرقعة انتشارها تتجاوز المنطقة إلى مناطق أخرى من العالم، من خلال التجمعات العربية في المدن الأوربية والأميركية وفي آسيا أيضًا. كذلك الاهتمام بالعربية ودراستها في المدارس والأكاديميات وجامعات العالم يتزايد اليوم بشكل غير مسبوق في تاريخ هذه اللغة. وذلك بخلاف لغات ساميّة أخرى تنتمي في أصولها إلى المنطقة الجغرافية نفسها. وفي الختام يقول الدكتور عبدالراضي رضوان، عميد كلية دار العلوم بجامعة القاهرة: إذا كان لنا أن نطلق صيحة التأييد والترحيب بالدعوة الحكومية الفرنسية لتدريس العربية، فإننا نرحب ببدء حقبة جديدة من حقب التواصل المعرفي والعلمي من خلال تواصل حضاري ولغوي يسهم في قطيعة معرفية مع صيحات العنصرية والجحود والإرهاب سواء أكانت تحت مسمى صراع الحضارات، أم كانت في رداء الإقصاء والأنا العلوية مالكة الحقيقة المطلقة.

مشاركة :