أريد في هذا المقال أن أختم سلسلة مقالات بناء "الكاريزما"، التي سبق أن بدأت أولى حلقاتها قبل أشهر. ذكرت من قبل أن "الكاريزما" لا تولد مع الإنسان، بل هو الذي يصنعها بنفسه، كما أنها ليست حكرا على شخصية بعينها أو ظروف بذاتها، بل تعتمد اعتمادا كليا على رغبة الفرد في اكتسابها. وبينت كذلك الخطوات السبع التي تمكن الفرد - أي فرد - من تكوين "الكاريزما"، وهي: أظهر التزامك بأهدافك، وارتد ما يتناسب مع دورك، ولتكن أحلامك كبيرة، ولا تتوقف عن السعي وراء أهدافك، وقم بواجباتك، وأحط نفسك بهالة من الغموض، واتبع الأسلوب غير المباشر. وقد قمت بشرح مفصل لكل خطوة من هذه الخطوات على شكل مقالات متتالية ولم تبق سوى الخطوة الأخيرة، وهي "اتبع الأسلوب غير المباشر"، التي سأناقشها في هذا المقال. لتوضيح طريقة عمل هذا الأسلوب سأستعرض القصة الخرافية التي بينها "كوهين" في كتابه "فن القيادة". تروي إحدى الأساطير القديمة، أن الرياح لاحظت رجلا يمشي في طريقه مرتديا معطفا، فتحدت الشمس قائلة لها: "سأثبت لك أنني الأقوى، وأنني أستطيع أن أجعل هذا الرجل يخلع معطفه بالقوة قبل أن تتمكني أنتِ من هذا"، وقد قبلت الشمس هذا التحدي. فأخذت الرياح تهب وتعصف، لكن كلما شدت عليه تمسك الرجل بمعطفه أكثر فأكثر، ثم اشتد عصف الرياح حتى أصبحت ريحا ثم إعصارا قويا، لكن الرجل ظل متشبثا بمعطفه ولم يخلعه، وعندها يئست الرياح وتوقفت عاجزة عن إرغام الرجل على خلع معطفه. بعدها جاء دور الشمس في جعل الرجل يخلع معطفه، لكنها لم تستخدم أسلوب الرياح نفسه، بل سلكت مسلكا آخر مختلفا تماما عن الرياح؛ حيث سطعت مرسلة أشعتها الدافئة بهدوء نحو الرجل، وبعد وقت قليل خلع الرجل معطفه من تلقاء نفسه. هدف الرياح والشمس واحد، وهو أن يخلع الرجل معطفه، لكن الأسلوب مختلف تماما. فالرياح استخدمت القوة، بينما الشمس استخدمت العطف واللين. القوة والتعنت لم تمكنا الرياح من الفوز بهذا الرهان، بينما الحنان واللطف اللذان استخدمتهما الشمس دفعا الرجل إلى خلع معطفه بنفسه وبرغبة منه، بل قد يكون ابتسم وأرسل عبارات الشكر والامتنان لأشعة الشمس. ولهذا، إذا أردت أن تبني لك "كاريزما" وفقا لمبدأ "الأسلوب غير المباشر"، فعليك أن تجعل الآخرين يفعلون ما تريد، ليس لأنك تريده؛ لكن لأنهم هم يريدون فعله مثلما فعلت الشمس مع الرجل تماما. دعونا من الأساطير والخرافات، ولنعد إلى الواقع، ونرى كيف يوظف القادة الأفذاذ الأسلوب غير المباشر في بناء "الكاريزما". من أبرع من استخدم "الأسلوب غير المباشر" في العصر الحديث الجنرال جورج مارشال رئيس أركان الجيش الأمريكي أثناء الحرب العالمية الثانية، الذي أصبح فيما بعد وزيرا للخارجية الأمريكية، وحصل على جائزة نوبل للسلام عام 1953 تقديرا لخطته المعروفة بـ"خطة مارشال أو مشروع مارشال". تولى مارشال القيادة في أحد المواقع الرثة المظهر، التي لم تلقَ أي عناية من قبل، فكانت مكانا للنفايات والقاذورات، وكان عليه أن يبذل مجهودا كبيرا لتنظيم وتنظيف تلك المواقع؛ كي تكون مناسبة لإقامة المعسكر وراحة الجنود. وقد تمكن من إصلاحها وتنظيمها وتنظيفها دون أن ينطق بكلمة نقد واحدة، أو يصدر أي أمر لأي فرد. يقول مرافقوه إنه لم يستخدم الأسلوب العسكري الملزم والمباشر، فيأمر جميع العسكريين القاطنين في هذا الموقع بتنظيف حدائقهم، وتقليم فروع الأشجار، بل أصبح يقوم يوميا بخلع بدلته العسكرية أمام الناس، ويضعها جانبا، ويلبس بدلة عمال النظافة، ويقوم هو بنفسه بتنظيف حديقة منزله، ويقلم أشجارها، ويجز العشب، ويزرع الأشجار بنفسه، بل كان يقدم مساعدات لجيرانه لتنظيف حدائقهم تطوعا منه. وعندما رأى الجنود والضباط قائدهم يفعل هذا العمل، الذي يستنكف منه كثيرون، أصبحوا يقلدونه، ويعملون بجد في تنظيف حدائقهم، حتى امتلأ المعسكر كله بالزهور والاخضرار، وأصبح الموقع الذي يقطنه "مارشال" نموذجا للنظافة، وواجهة لبقية المعسكرات بعد أن كان وكرا للنفايات، ومرتعا للجراثيم، وبؤرة للحشرات والقاذورات. إن تطبيق "الأسلوب غير المباشر" يتطلب البحث عن الفرصة المناسبة لجعل الأتباع يفعلون ما يريده قائدهم دون أن يصدر أوامر مباشرة. وإذا كان لازما من استخدام الأمر المباشر، فعلى القائد أن يلينه بعبارات لطيفة، أو يجعله على شكل اقتراح، فيقول لهم: "هل ترون صباح الغد وقتا مناسبا لعقد اجتماع؟". وإذا لاحظ أن أحد موظفيه يريد أن يؤخر تسليم التقرير، فيمكن أن يقول له: "أرى أن لديك قدرات تمكنك من أن تنهي التقرير الذي بين يديك في وقته المحدد؛ حتى لا نواجه نقدا من مجلس الإدارة". وهناك أمثلة كثيرة يمكن للقائد أن يكيفها حسب بيئة العمل. وبتطبيق الأسلوب غير المباشر، ننهي بذلك خطوات "كوهين" السبع لبناء "الكاريزما"، فمن أرد أن يبني له "كاريزما"، فما عليه سوى العودة إلى هذه الخطوات، ويقوم بالتدريب عليها، وسيرى كيف تعمل لمصلحته عمل السحر.
مشاركة :