سجل خام القياس العالمي "مزيج برنت"، في مطلع الأسبوع الجاري، سعراً قياسياً لم يعهده منذ الربع الأخير من سنة 2014، عندما هوت أسعار النفط بشدة، إثر نجاح السعودية، المنتج الأكبر بـ "أوبك"، في إقناع باقي دول المنظمة بالتخلي عن سياستهم التقليدية المتمثلة في خفض سقف الإنتاج كلما ضعفت الأسعار. ولم تتخلَّ "أوبك" عن هذا التوجه الذي نجح الى حد كبير في الحد من توسع صناعة النفط الصخري، إلا مع نهاية عام 2016، عندما قادت السعودية اتفاقاً جديداً ضم "أوبك" ومعها المنتجون من خارجها، من أجل خفض الإمدادات النفطية بنحو 1.8 مليون برميل يومياً. وقد التزمت "أوبك" بنحو ثلثي هذه الكمية، بينما التزمت الأطراف الأخرى بالثلث المتبقي. وتمكن هذا الاتفاق من الصمود بقوة منقطعة النظير حتى منتصف العام الحالي، عندما قررت أطرافه التخلي عنه لمصلحة زيادة الإنتاج، بعدما اقترب سوق النفط العالمي من التوازن. بيد أن ظروفاً جيوسياسية وفنية غير مواتية تسببت في تراجع إمدادات النفط، وما زالت تهدد باستمرار هذا التراجع في الفترة المقبلة. وهي ظروف تثير مخاوف المراقبين من عدم قدرة المستوى الراهن من العرض على تلبية الطلب العالمي. أزمة نقص الإمدادات على رأس قائمة البلدان الرئيسية المنتجة للنفط، التي تراجعت إمداداتها، تأتي إيران التي بدأ الخناق يضيق على صادراتها، والتي تسببت ضغوط وتهديدات الولايات المتحدة في تراجع الشركات العاملة في منظومة دول الاتحاد الأوروبي والصين والهند عن فكرة خرق العقوبات الأميركية عليها، وهي الأطراف التي كانت إيران تعول عليها في تخفيف أثر تلك العقوبات. وتلي إيران في هذه القائمة فنزويلا، التي يبدو أن مشكلاتها أكبر وأشد تعقيداً مما كان متصوراً من قبل، فإلى جانب الانخفاض القياسي والمطرد في إنتاج حقولها، تواجه شركتها الحكومية مشكلات تتعلق بعدم كفاية طاقات التخزين، فضلاً عن فقدانها محطات التصدير في منطقة البحر الكاريبي، التي آلت ملكيتها إلى شركة كونكوفيليبس الأميركية، بعد حكم قضائي. وضمن القائمة تأتي أنغولا، ثاني أكبر منتج للنفط الخام في غرب إفريقيا، والتي كانت قد فقدت نحو 35 في المئة من قدرتها الإنتاجية، وما زالت حقولها النفطية تعاني تناقصاً مستمراً في قدرتها على الإنتاج، بسبب انخفاض الضغط في مكامنها، فضلاً عن مشكلات هيكلية تتجاوز الحاجة إلى الصيانة، إضافة إلى تراجع القدرة على تمويل عمليات تطوير الإنتاج المكلفة في المياه العميقة. وما زال بالإمكان إدارج ليبيا ضمن هذه القائمة، إذ ما زالت تعاني صراعاً قبلياً مريراً على مناطق النفوذ، وكذلك نيجيريا، التي شهدت، ولسنوات، مشكلات أمنية، وتشير آخر التقارير إلى تراجع إنتاجها إلى نحو 1.8 مليون برميل يومياً، وهذا أدنى مستوى منذ الربع الأول من العام الماضي. توازن بانتظار الشتاء ومع قيام روسيا بالإنتاج عند أقصى قدرة لحقولها، لا تملك "أوبك" سوى التعويل على الطاقة الإنتاجية الفائضة لدى السعودية في تعويض العجز الحالي والمتفاقم في المعروض، ولكن التقديرات المتوافرة في الوقت الحالي تشير إلى أن هذه الطاقة الفائضة غير كافية لتعويض كامل النقص الحالي والمتوقع في المعروض. وهذا يفسر الارتفاع السريع في سعر الخام في الفترة الراهنة، وهو ارتفاع قد يفضي في نهاية المطاف إلى عودة النفوط غير التقليدية، والنفوط الهامشية إلى الأسواق، وتقويض النتائج التي تحصلت عليها "أوبك" خلال سنتين من المعاناة، هوت فيها أسعار الخام إلى مستويات مكلفة، في سبيل الحد من تطور صناعة النفط الصخري وإعادة التوازن إلى السوق. صعود الأسعار مقلق أيضاً للإدارة الأميركية، التي تريد أسعار محروقات معتدلة، من أجل دعم مرشحيها في الانتخابات البرلمانية النصفية، في الشهر المقبل، ومع غياب القدرة على تعويض النقص في المعروض، فإنها لن تجد بديلاً عن مواصلة السحب من المخزون الإستراتيجي، وهذا في حد ذاته يحفز الأسعار إلى مزيد من الارتفاع. ويبدو أن الأمل الوحيد المتبقي من أجل عودة التوازن إلى السوق ووقف هذا المسار التصاعدي للأسعار يكمن في ترقب شتاء معتدل، يضمن تراجع وتيرة الطلب على النفط، ويعيد إليه الاستقرار المنشود. * أستاذ الاقتصاد بجامعة الكويت
مشاركة :