هو مشهد استثنائي بديع يطالعه المرء حين يكون جالساً يتأمل روعة البيئة المحيطة به على كرسيّه في حديقة فندق «دوليز» على ضفة نهر أبي الرقراق المواجهة وسط خضرة مدينة سلا وأشجارها، للضفة الأخرى التي تشغلها المدينة التوأم، الرباط. فمن مكانه في حديقة هذا الفندق الحديث الطراز والأنيق المتميّز بنظافة استثنائية، يمكن المرء أن يشاهد بنظرة واحدة غير بعيد منه، مخزن حسّان وضريح الملك الراحل محمد الخامس، وبخاصة الجسر المنساب الذي يربط بين المدينتين التوأم. غير أن صرحاً جديداً بدأ يضاف قبل سنوات إلى ذلك المشهد لا يبعد من حديقة الفندق سوى بضع عشرات من الأمتار عبر النهر. منذ النظرة الأولى يكاد المرء يكتشف حسّاً أنثوياً أقرب إلى أن يكون منحوتة ضخمة من صنع هنري مور. غير أنه سرعان ما يدرك أن ذلك الجسد النسائي المستلقي بغنج وهدوء على مبعدة أمتار من الضريح الملكي الرزين إنما هو الهيكل المكتمل يوماً بعد يوم لمبنى مسرح الرباط الذي ستفيدك المعلومات فوراً بأنه كلف حتى الآن ما يقرب من ملياري درهم مغربي (نحو 200 مليون يورو) ما يجعله أكثر مباني المغرب كلفة. لكن هذا ليس كل شيء، حيث إن تفحّص تفاصيل المشروع على الإنترنت سيقول لك أنك هنا في مواجهة أكبر مسرح في طول أفريقيا وعرضها وأجملها. لكن أكثر من ذلك وأهم من ذلك: في مواجهة واحد من آخر المشروعات وأجملها التي رحلت المعمارية العراقية الكبيرة زها حديد من دون أن تراها مكتملة. فالمشروع من تصميم سيدة المعمار العالمي وتنفيذ مكتبها اللندني. المرأة المنسابة المستلقية هناك على ضفة أبي الرقراق مشكلة فخراً للمغاربة، هي مسرح الرباط الذي سيفتتح بعد شهور ليكون افتتاحه مناسبة للعودة إلى تلك المبدعة العربية الكبيرة. تلك النكهة المختلفة غير أن تأمل الجالس في حديقة الفندق عند ساعة الغروب الرائقة تلك يأتي ليعطي المشهد كله نكهة مختلفة تماماً. نكهة تتعلق بتلك المصادفات التي عادة ما تصنع الأحداث والمواقف على طريقتها. فعلى مبعدة تلك الأمتار القليلة من مأثرة زها حديد، وفي الفندق ذاته ثمة تظاهرة يكاد يكون من المنطقي ربطها بزها حديد مباشرة: فالفندق هو لأيام مقر ضيوف وندوات ولقاءات الدورة الثانية عشرة من مهرجان سلا الدولي لفيلم المرأة. المهرجان الذي كانت حديد ستسرّ كثيراً لو كانت حية بيننا بأن تتعرف إليه وإلى ضيفاته وعروضه. فالمرأة الوحيدة في العالم التي نالت، وسط أعداد لا تحصى من المعماريين الرجال، جائزة البليتزر المعتبرة «نوبل الهندسة المعمارية»، كان سيفرحها أن تجد نساء عربيات وغير عربيات يكافحن عبر السينما وأفلامها ليثبتن قدرة المرأة على التفوق وارتياد دروب الإبداع والجمال في عالم لم يكفّ الذكور عن السيطرة عليه. سيسرها أن تشاهد مع جمهور مدهش عشرات الأفلام القصيرة والطويلة تقول كلمة المرأة في ما يحدث في هذا العالم. كان سيسرها أن تشارك في تلك التظاهرات المتنوعة التي احتواها مهرجان بدا من الواضح أنه ليس كالمهرجانات رغم ضآلة موازنته والصعوبات التي تعترض طريقه عاماً بعد عام. سن الرشد في دورته الثانية عشرة، إذاً، بدا واضحاً أن مهرجان سلا بلغ سن الرشد وبات مرة أخرى نقطة لقاء لا محيد عنها لسينمائيات أتين من قارات العالم جميعاً للقاء هنا وعرض أفلامهن والتداول في شأنها، ولكن كذلك في الكثير من شؤون العالم وشجونه، لا سيما منها هذه المرة قضية التحرش الجنسي والنظرة إلى المرأة ودور السينما في تبديل تلك النظرة... في شكل إجمالي كان العالم الماثل في سلا، والذي لا شك في أن روح زها حديد المخيمة عليه من تلك المسافة القريبة كانت ترصده باهتمام وانتباه، عالماً نسائياً... ولكن ليس بالمعنى الفولكلوري للكلمة، وليس طبعاً بمعنى الوصاية الذكورية التي اعتادت أن تطبع مهرجانات عدة من هذا النوع. وهكذا لئن كان وزير الوصاية، وزير الثقافة والاتصالات رجلاً، ولئن كان مدير المهرجان نفسه، الصديق عبدالقادر العصادي رجلاً، كانا بالكاد مرئيين خلال أيام المهرجان، لا سيما الثاني الذي وضع نفسه وطاقاته وتهذيبه الجم في خدمة نساء المهرجان وأفلامهن، تاركاً العمل الحقيقي والمثمر والقرارات الصعبة لمساعداته الكثيرات. مهرجان سلا لفيلم المرأة مكان يمحو فيه الذكور أنفسهم تماماً وتتألق فيه النساء. ولكن تتألق فيه بخاصة أفلام النساء، والتكريمات التي تطاول سينمائيات نساء، مع استثناء واحد هنا يتعلق بتكريم ذكرى محمد أعريوس الراحل باكراً بعدما ساند المهرجان في مواسمه السابقة، وكذلك تقديم كتاب يجمع مقالات الناقد الراحل مصطفى المسناوي الذي عُرف بدعمه المهرجان وكُرمت ذكراه في العام الفائت. أما الباقي فنساء في نساء، من الفنانة المبدعة المصرية يسرا اللوزي التي تألقت بتواضعها الجم كعضو في لجنة التحكيم للأفلام الطويلة إلى جانب زميلتها المغربية أسماء الخمليشي وسط سينمائيات وممثلات أتين من كل أنحاء العالم، إلى هدى الريحاني النجمة المغربية الكبيرة التي كرّم المهرجان عطاءها الفني الذي فاق العقدين من الزمن كما كرم التونسية سلمى البكار والمصرية رانيا فريد شوقي، وبخاصة المنتجة البرازيلية سارا سيلفيرا التي تميزت بخطاب نضالي في حفل الختام بدا للحظة أنه لن ينتهي! وإلى جانب لجنة التحكيم للفيلم الطويل كانت هناك لجنة تحكيم للفيلم الوثائقي ضمت أيضاً سينمائيات نساء فقط من بينهن السينمائية اللبنانية ميشال تيّان، ناهيك بلجنة تحكيم، نسائية، أيضاً ودائماً، تولت منح جائزة الجمهور الشاب، ما مكن فنانَيْن مغربيين من الدخول إلى عالم الفائزات في حفل الختام وهما في أي حال من الأكثر شعبية في هذا البلد: رشيد الوالي الذي تسلمت زوجته جائزته لوجوده في نيويورك، وإدريس المريني. أما بقية النتائج فجاءت نسائية خالصة كما يأتي: جائزة جمهور الشباب للفيلم المغربي القصير ذهبت إلى «النداء» لمريم كنزي لحلو؛ في مسابقة الفيلم الوثائقي كانت الجائزة الوحيدة من نصيب الفيلم الأفغاني «ألف فتاة تشبهني» من إخراج صهرا ماني. أما في مجال الفيلم الروائي الطويل أي في المسابقة الرئيسية للمهرجان فلقد ذهبت جائزة أفضل سيناريو إلى الفيلم الصيني «الملائكة ترتدي البياض» للمخرجة فيفيان كو؛ بينما فاز بجائزة أفضل ممثل (وهي فئة كان لا بد منها وإن مرّ ذكرها في حفل الختام مرور الكرام ربما لأن الفائز رجل وربما لأنه جزائري!) جمال بوجمعة عن دوره في فيلم «إلى آخر الزمان» من إخراج ياسمين شويخ؛ وفي المقابل فازت آلينا سيربان بجائزة أفضل ممثلة عن دورها في الفيلم البلجيكي «وحيدة في عرسي»؛ أما الجائزة الكبرى، والتي قوبل الإعلان عنها في حفل الختام الصاخب بأكبر قدر من تصفيق أثلج صدر مخرجة الفيلم الرومانية خوانا أوريكارو فأتت من نصيب فيلم «ليموناضة» الذي كان لفت الأنظار منذ عرضه. مهما يكن من أمر، فلا شك في أن لجنة التحكيم التي ترأستها كاتبة السيناريو الشيلية ماريلو مالي، وجدت صعوبة كبيرة في الوصول إلى أحكام نهائية عند مداولات النتائج الأخيرة... وكما قالت لنا الفنانة يسرا اللوزي، كان النقاش صاخباً والمعايير متنوعة... ومع هذا، تم التوصل إلى النتائج، بعد ساعات من السجال، في شكل لم يخلّف آثاراً كبيرة. والحقيقة أن استعراضاً لموضوعات الأفلام المتبارية وقوة لغات معظمها السينمائية يكفي لتفسير هذا الأمر. فالاختيارات من الأساس وقبل حديث الجوائز، كانت ممتازة، سواء بالنسبة إلى الأفلام الفائزة أو تلك التي لم يكن الفوز من نصيبها... بل إن ما كان أكثر أهمية بكثير من الجوائز والفوز، إنما كان تلك الحساسية التي اتسمت بها غالبية الأفلام المتبارية، وحتى تلك غير المتبارية: حساسية نسائية شديدة المعاصرة تتنطح لأكثر القضايا المطروحة في عالم اليوم صعوبة وتعقداً. ثم، على رغم خطابات الحفلات واللقاءات الصاخبة، والتي ذكّرنا بعضها بنضالات سنوات الستين والنزعات النسوية المتطرفة، عرفت الأفلام في شكل إجمالي، وفي الوقت ذاته كيف تتحرك ضمن أطر لغات سينمائية قوية وموضوعات لافتة وارتقاء بالحس الاجتماعي إلى درجات قصوى من الجرأة... إنها في نهاية الأمر سينما نساء حقيقيات لا يرغبن فقط في قول ما يشغلهن، بل ينشغلن أيضاً، بخاصة بالكيفية التي يقلن بها ما يردن قوله. حين تكون المرأة قوية فمن «الملائكة ترتدي البياض» الذي يحدثنا عن طالبتين تتعرضان للاعتداء من رجل في منتصف العمر فتصمت الشاهدة الوحيدة على الاعتداء خوفاً؛ إلى «ماكيلا» المراهقة الكونغولية التي تتعلم في الشارع فن البقاء في قيد الحياة؛ مروراً بنوريا وفابيو وأمهما الساعين عند حدود أمازونية إلى الهرب من النزاعات المسلحة (في «الصمت» لبياتريز سيينر)؛ وباميلا (الشخصية المحورية في «وحيدة في عرسي») تلك الغجرية الجريئة التي تقطع مع التقاليد من دون أن تأبه بالسير نحو المجهول؛ وازدواجية نيشا (في «السمعة السيئة» لإيرام حق) الباكستانية المراهقة التي تعيش مستقيمة بين أهلها لكنها تمارس حياتها كما تريد في الخارج؛ وصولاً إلى هنية المرأة التي لا جنسية لها في فيلم نرجس نجار الجديد «بلا موطن» التي تحاول العودة إلى الجزائر بعدما كانت قد طردت منها... وصولاً بالطبع أخيراً إلى «ليموناضة» المتوج بالجائزة الكبرى وبتصفيق الجمهور الحاد، حيث يدور الفيلم حول مارا، الشابة الرومانية التي تنتقل إلى الولايات المتحدة مهاجرة مع ابنها طفل التسع سنوات وزوجها الجديد، لتواجه خلال يوم واحد سلسلة تبدو أنها لن تنتهي من الصعوبات والمشكلاا الإدارية.... من الواضح أننا في كل هذه الأفلام وغيرها، لم نعد أمام نساء مستضعفات يمضين أوقتاهن في الشكوى والنحيب، بل أمام نساء قويات الشكيمة تمسك كل واحدة منهن مصيرها بيدها، محاولة أن تعيش حياتها، ليس في مواجهة الرجل بل في مواجهة المجتمع الذي يحيلها ضحية، جاعلاً من الرجل، وحتى من دون إرادة هذا الأخير، جلاداً لها هو الذي يأتي معظم أفلام المهرجان ليرينا كم أنه هو الآخر ضحية بدوره... ترى ألا يكفي هذا في حد ذاته ليجعل من هذه الدورة من مهرجان سلا لفيلم المرأة دورة استثنائية، ومن المهرجان ذاته مهرجاناً استثنائياً يعبق بكثير مما كان من شأن روح زها حديد التي ترصده من على بعد أمتار عبر النهر وتحت الأشجار، أن تباركه بقوة وحنان؟
مشاركة :