وداعاً (أبا أحمد) وداعاً .. يا صديقي العزيز

  • 9/22/2013
  • 00:00
  • 29
  • 0
  • 0
news-picture

قبل أن يغيِّب الموت الصديق العزيز الأستاذ رضا لاري في ذلك الصباح الحزين من يوم الجمعة قبل الماضي.. كان (أبو أحمد) قد أخذ في الانزواء شيئاً فشيئاً عن مجالس الصحفيين والأدباء والمثقفين بصفة عامة: إن كان في (ثلوثية أبو الشيماء) العامة.. أو في (إثنينية الخوجة) الأدبية.. أو في (خميسية أبو علاء) الإدارية القانونية التي كان يتقاسم حضورها رجال الأعمال والإعلام بأقدار متساوية.. وقد كان له فيهم جميعاً، حضور جميل فواح بهيج.. مليء بالقفشات والضحكات والرؤى والاختلاف والاتفاق حول آرائه السياسية، ليتحول ذلك الانزواء الذي أزعج الكثيرين من أصدقائه ومحبيه وفي مقدمتهم أصحاب تلك (الصوالين) أنفسهم.. إلى قطيعة تامة، واختفاء كامل عنها.. وهو ما جعلني أسأله على الهاتف المرة تلو الأخرى - بحكم العلاقة الحميمية وصداقة (المناكفة) التي تربطني به - عن أسباب قطيعته واختفائه؟ فكان جوابه: إنه لم يعد يستطيع “السهر” في تلك الليالي.. نظراً لارتباطه وعنايته بـ (حفيده) أحمد الذي أصبح في سن القبول بـ (رياض الأطفال)، وهو ما يُلزمه باصطحابه إلى روضة الأطفال.. ذهاباً وإياباً.. تشجيعاً له وخوفاً عليه، فكان عذره مقبولاً، وتبريره منطقياً لمن يعرفون (آل اللاري) ودرجة التماسك الأسري التي كانوا وما يزالون عليها.. وفي مقدمتهم نجمهم و(فاكهتهم) أو فاكهة الصحافة السعودية إجمالاً الأستاذ رضا لاري نفسه، الذي أحسب أنه ورث تلك (الآصرة) عن عمه - عميد أسرتهم الأول - الأستاذ أو الشيخ (أحمد لاري).. أحد كبار موظفي الخارجية السعودية في عقودها الأولى، والذي عندما سألت الأستاذ الزيدان عنه - وقد ورد اسمه في أكثر من كتاب.. من تلك الكتب الناطقة بالإنجليزية التي صدرت في أعقاب الحرب العالمية الأولى - أفاض في التعريف به، فلم أنس قوله الذي أعجبني بـ (إنه كان يجيد اللغة الإنجليزية قراءة وكتابة وترجمة كأنه ابن من أبنائها)، وأنه كان مثقفاً (انتقائياً).. وأنه هو الذي أخبره بأن اسم مكة - حرسها الله - يتكون من اسمين: (مَهْ).. ومعناها (بيت)، و(كَهْ).. ومعناها (القمر)، أي أن اسم (مكة) هو: (بيت القمر)، وكان الأطرف فيما قاله الأستاذ الزيدان عنه (إنه كان يمضي شهراً في العام في مكة.. وهو يبيت خارج (المنزل) الذي يسكنه.. حتى يجفف بهوائها (الجاف) رطوبة جدة التي تطغى على معظم شهور العام..!! لكن - صديقنا المشترك - الأستاذ تركي السديري استطاع أن يخرجه من حالة (القطيعة) التي كادت أن تمتد لـ (قلمه) مع صحافة وصحفيي (الغربية).. عندما استعاده لكتابة مقاله الأسبوعي المعروف (مع الأحداث) في جريدة الرياض، وقد أجزل له المكافأة.. تقديراً لقلمه المتمرس سياسياً، ومحبة في (أسلوبه) وشخصه بحد سواء، ليستمر مع (الرياض) لسنوات.. ثم ليفاجئنا بانتقاله - ومقاله - مؤخراً إلى جريدة (المدينة) دون أن تُعرف أسباب ذلك الانتقال غير المتوقع.. لتنطوي قصته مع فقده المأسوف عليه. * * * على أي حال.. كان الأستاذ رضا لاري، بداية.. ابن (الخارجية) - كعمه -، وقد درس الثانوية في كلية (فيكتوريا) بـ (القاهرة) عندما كان لا يذهب للدراسة بها غير أبناء القادرين من الحجازيين، ثم التحق بقسم الاقتصاد والعلوم السياسية - بكلية التجارة - بجامعة القاهرة، وكأن (عمه) كان يعده بذلك للعمل (الدبلوماسي).. فيما بعد، وهو ما كان عندما تم تعيينه بـ (الخارجية) بعد تخرجه ملحقاً ثانياً، فملحقاً، فسكرتيراً ثانياً.. إلى أن بلغ أعلى مراتب السلك الدبلوماسي.. عندما أصبح قائماً بالأعمال - وهي وظيفة توازي وظيفة (سفير) التي تمثل قمة الهرم في سلك الدبلوماسية الوظيفي - في السفارة السعودية بالعاصمة السنغالية (داكار). حيث أتى به - بعد تقاعده المبكر أو غير المبكر - ابن خالته - عبقري الصحافة السعودية - الذي لم ينصف -: (إعلاماً) و(إعلاناً).. الأستاذ علي شبكشي إلى رئاسة تحرير (عكاظ)، بعد أن قام - وقد أصبح مديراً عاماً لمؤسستها - بـ (إنقاذها) من حالة التردي التي بلغتها مع (سلفيهما)، في سابقة هي (الثانية) من نوعها بين الدبلوماسية والصحافة.. بعد استعارة (مؤسسة المدينة للصحافة) في النصف الثاني من عقد الستينات.. لخدمات الدبلوماسي والمحلل السياسي الأستاذ محمد عبدالقادر علاقي للعمل رئيساً لتحرير صحيفتها (المدينة) بعد تنحية نجمها ورئيس تحريرها الأول الأستاذ محمد علي حافظ، وقد تكررت تلك (التبادلية) بين الدبلوماسية والصحافة فيما بعد.. عندما استعارت (مؤسسة عكاظ) بعد أن استردت عافيتها على يدي - الشبكشي واللاري - خدمات الدبلوماسي الأستاذ عبداللطيف ميمني لـ (رئاسة تحرير) صحيفتها الإنجليزية الأولى إصداراً (سعودي جازيت)، أو المتزامنة مع صحيفة (آراب نيوز).. التي أصدرها الشقيقان هشام ومحمد علي حافظ عن الشركة السعودية للأبحاث والنشر - التي أسساها مع عدد محدود من رجال الأعمال المهتمين بالإعلام ودوره - بعد مغادرتهما لصحيفة (المدينة)، على أن هذه التبادلية.. لم تكن في اتجاه واحد من (الدبلوماسية) إلى (الصحافة).. بل كانت في الاتجاهين معاً، إذ عندما انتهت إعارة الأستاذ الميمني لـ (سعودي جازيت).. عاد إلى الخارجية والعمل الدبلوماسي مجدداً، حيث تم اختياره - فيما بعد - كأول سفير للمملكة في (طهران).. بعد عودة العلاقات معها. لقد كانت هناك - ودائماً - أرض مشتركة بين الدبلوماسية والصحافة، أو مساحة طويلة من التماس بين (الدبلوماسي) و(الصحفي): فكلاهما يسأل، وكلاهما يبحث عن الأخبار، وينقب عن الأسرار وكلاهما يكتب: أحدهما لدولته.. والآخر للناس.. لـ (القراء)، وقد أدار الأستاذ رضا رئاسة تحريره لـ (عكاظ) بروح الدبلوماسي، وخبرته وحيطته فيما يقال وما لا يقال، وبتجربته في كتابة التقارير الأسبوعية والشهرية، وحنكته في الوصول إلى ما وراء الأخبار من أسرار.. وقد أعانه الأستاذ علي شبكشي الذي كان يملك مقدرة خرافية في الوصول إلى مكامن الأسرار.. ومطالعة القراء بها، ليصنعا معاً صحيفة ينتظرها ويقرؤها معظم الناس.. على أن الكاتب الصحفي فيه، كان يقف في أقصى اليمين الرأسمالي.. بقدر غير قليل من الحدة - غير الموضوعية - تجاه اليسار ورموزه السياسية والتحررية خاصة بعد لقاءيه الصحفيين المتميزين مع كل من شاه إيران والسادات.. الذي عاد منه بتلك العبارة السياسية الرائعة: (حمار العمدة.. عمدة)، وهو ما كان يؤجج اختلافاتي السياسية معه سواء في (الثلوثية) أو (الخميسية).. إلا أن نجاح ثنائيته (مع الشبكشي) ظل بارزاً مقدراً من قبل قراء الصحيفة، وهو ما بنى عليه وزاداه وكبراه - فيما بعد - (ثنائي): الصديق الأستاذ إياد مدني.. إدارياً، والزميل د. هاشم عبده هاشم تحريرياً.. فصنعا به ما يمكن أن نسميه بـ (الطفرة) العكاظية، التي حملتها إلى الصف الأول مع نظيراتها من صحف المملكة. * * * لكن (رضا) المزعج سياسياً لبعض الناس.. كان المحبوب اجتماعياً عند كل الناس بـ (خفة ظله) وقفشاته ونوادره.. حتى ليكاد يشبه في ردة الفعل على ثنائيته تلك عند أصحاب الرأي - مع الفارق - ما قاله (تشي جيفارا) عن صديقه الرئيس الكوبي فيدل كاسترو: (لا يمكن أن تتخاصم دائماً.. مع كاسترو، ولا يمكن أن تتصالح معه دائماً)!! إلى جانب ذلك.. فقد جمع في سلاسة وبساطة وانسجام بين النقيضين: (الأرستقراطية) و(الشعبية).. وليس أدل على تلك (الشعبية) المتغلغلة في نسيجه ووجدانه من تسميته لـ (الوكالة الإعلانية) التي أنشأها بعد إقالته من رئاسة تحرير عكاظ.. بـ (المنادي)!! وهو اسم تراثي شعبي قديم استوحاه من (أول) وسيلة إعلانية يعرفها مجتمع جدة التجاري.. عندما كانت لا توجد صحف أو إذاعة فضلاً عن التلفزيون.. حيث كان يخترق هذا (المنادي) شوارع القلب التجاري للمدينة، وهو ينادي بأعلى صوته عن (سفر أو وصول الباخرة البريطانية أو الهندية أو المصرية لوكيلها شركة “فاضل عرب” أو “وجلاتي وهانكي”.. في اليوم (الفلاني)، وأن عليها كذا وكذا من البضائع والمعدات والسيارات، وأن على (التجَّار) مراجعة إدارة الجمارك.. والحاضر يعلم الغائب).. وهو اسم ما كان ليخطر ببال من لا يحمل في وجدانه ذلك المخزون الشعبي التراثي العريض.. كالأستاذ رضا لاري..! أما حكاياته الكثيرة الجميلة الماتعة.. والتي لا تدري أين الحقيقة فيها من الخيال، فقد كان نموذجها الذي مازال يذكره الوسط الصحفي خاصة.. هو عندما سأله أحد كبار المسؤولين في ختام زيارة رسمية كان يقوم بها لإحدى الدول الأوروبية، وقد كان الأستاذ رضا من بين أعضاء الوفد الإعلامي المرافق لذلك المسؤول.. عن: أحسن ما في الزيارة..؟ فرد الأستاذ رضا وعلى الفور: (الظروف) المحيطة بالزيارة..!! وفهم المسؤول الكبير (الإشارة) وهو يستغرق ضحكاً.. ليردفه بـ (ظرف) آخر كسابقه..!! أما (نظرياته) الناقدة اللاذعة والساخرة.. فقد كانت أبرزها (نظرية الفيزلين) عن أولئك الذين يغرقون في امتداح المسؤولين بدون أسباب أو حيثيات تبرر مدائحهم.. حيث كان يعتبرهم من (الداهنين) الذين لا يرجى منهم نفعاً..! على أنه لم يكتف بتلك النظريات.. بل أضاف إليها إحدى تقليعاته الساخرة عن المتزيدين والمتنطعين إلى جانب أنصاف العقلاء والمهابيل، التي تمثلها فكرة (اللستة) أو القائمة التي يضع فيها كل أولئك عندما تثبت عنده إدانتهم، وأحسب أن تلك (اللستة) أو القائمة.. بدأت عندما طلب من مكتب أحد الوزراء (موعداً) للقاء معاليه؟ فرد عليه سكرتير معاليه في اليوم التالي: بأن موعده سيكون في الواحدة والنصف ظهراً من يوم كذا في الشهر التالي..!! ليرد عليه الأستاذ رضا: فضلاً.. لحظة؟ فقال السكرتير: خيراً. إن شاء الله؟ فقال الأستاذ رضا: حتى أضعكما في (اللستة)! لكن الأطرف وما أكثر الطرائف التي كانت معه.. كان في ذلك اليوم، وقد كنا في وفد صحفي يضم ستة أو سبعة من رؤساء تحرير الصحف والمجلات لزيارة مقاطعة (اسكتلندا) البريطانية بدعوة رسمية أشرفت عليها السفارة.. حيث أخذنا نتقاطر إلى بهو الفندق (اللندني) الذي كنا نقيم به استعداداً لسفرنا في اليوم التالي إلى (أدنبرة)، حيث أخذت مقعدي على إحدى طاولات البهو ليلحق بي الأستاذ رضا.. وقد توسطتنا فناجيل القهوة وأخذتنا الدردشات الصحفية يميناً وشمالاً.. ليلحق بطاولتنا أحد رؤساء تحرير الصحف اليومية المعتد بنفسه والمعتز بصحيفته وأرقام توزيعها التي تزيد عن المائة ألف (؟!) بعد أن جلس (الأستاذ) رائقاً.. هادئاً، وقد طلب فنجالاً من القهوة مثلنا.. كان الأستاذ رضا يسألني: متى تكتب..؟ ومع أن السؤال كان غريباً.. في غير وقته وأوانه، إلا أنني أجبته بعد إلحاح منه: أكتب ليلاً.. وأراجع صباحاً. ليلتفت إلى ثالثنا، الذي عُرف عنه بأنه يكتب كثيراً من المقالات والأعمدة والتعليقات إلى جانب بعض من قصصه القصيرة.. باسمه أو بأسماء مستعارة، وهو يقول له: ومتى لا تكتب.. يا أستاذ؟! لتنفجر ضحكاتنا..!! * * * لقد كان الأستاذ رضا لاري بحق.. فاكهة الصحافة، وبسمتها.. وعندما اختفت من على شفتيه تلك البسمة في ذلك الصباح الحزين.. كانت وكأنها تختفي من شفاهنا جميعاً.. ومن الصحافة كلها. رحمك الله أبا أحمد.. رحمك الله يا صديقي العزيز.

مشاركة :