لا شك أن الشخصيات ذات القدرات الخارقة كانت على الدوام حاضرة في العديد من أفلام الخيال العلمي، قدرات خاصة في اختراق المكان وتجاوز حاجز الزمن وتجاوز المسافات، وهو عنصر الجذب الذي تمتلكه تلك الشخصيات وهي تخوض مغامراتها بلا نهاية. تمجد العديد من أفلام الخيال العلمي البطولة الفردية، في ظل وجود شخصيات متضادة تتبارى في ما بينها من ناحية امتلاكها القدرة على التفوق، ليكون الانتصار في النهاية للأقوى. وقد شاهدنا هذا النوع من خلال العديد من الأفلام منها سلسلة أفلام “سوبر مان” التي بدأ ظهورها منذ أواخر الأربعينات من القرن الماضي وتواصل إنتاجها إلى وقت قريب، وسلسلة “ماتريكس” (1999-2003)، وسلسلة “أفلام الرجل العنكبوت” (2002-2014)، وسلسلة “كابتن أميركا” (2011-2016)، و”أفلام ظاهرة” (1996)، و”التالي” (2007)، و”مطلوب” (2008)، و”أنا الرقم 4” (2011)، و”لوسي” (2013)، و”حراس المجرة” (2014)، و”حافة الغد” (2014)، و”الرجل النملة” (2015)، و”دكتور سترينج” (2016)، و”لوغان” (2017) وغيرها من الأفلام. وفي الفيلم الجديد “قمر المُشتري” للمخرج الهنغاري كورنيل موندروكزو ستحضر بقوة القدرة الخارقة، ولكن في إطار شديد القتامة والواقعية. فهذا الفيلم الهنغاري الألماني والذي سبق وعرض في مهرجان كان السينمائي الأخير، ولاقى اهتماما إعلاميا ونقديا واسعا يعرض لقصة اللاجئين السوريين الفارين من جحيم الحرب في بلادهم، والذين يقطعون البحر وصولا إلى صربيا أملا في اجتياز حدودها للوصول إلى أحد بلدان اللجوء، لكن الشرطة الهنغارية الغارقة في الرشوة والفساد سوف تكون لهم بالمرصاد. ضابط الشرطة لازلو (الممثل جورجي سيرهالمي)، هو أشد أعداء المهاجرين ولا يتورع عن ملاحقتهم وإطلاق الرصاص على من يقع بين يديه، وهكذا يقع أريان، اللاجئ السوري (الممثل زومبور جيغر) ضحية هذا الضابط، فيفقد والده بعد غرق الزورق الذي يحمله هو ومن معه، ثم يتلقى رصاصات في صدره لن تميته، بل تظهر قدرته الخارقة في اجتياز حاجز الجاذبية والتحليق عاليا. وخلال ذلك نكتشف دور الطبيب شتيرن (الممثل ميراب نينيدز) الذي يرتشي من طالبي اللجوء في مقابل إدخالهم زورا المستشفى، وبالتالي تسهيل هربهم إلى مراكز اللجوء. ويكتشف شتيرن بالصدفة تلك القدرة الخارقة لدى أريان ويتمكن من إقناعه بجني المال من خلال إطلاق مهاراته تلك أمام أشخاص محددين، لكن الصراع يشتعل بين شتيرن والضابط لازلو الذي يريد القبض على أريان بأي طريقة. الفيلم يطرح دراما مكثفة لتراجيديا إنسانية تحمل هامشا واسعا من الواقعية التي تمتزج بخيال علمي حفل الفيلم بمشاهد كثيرة غاية في الإتقان والمهارة في رسم المشهد وفي بث الحركة وفي حركات الكاميرا ومستوياتها، ولعل من أكبر التحديات التقنية تلك التي تتعلق بأريان ساعة يقرر التحليق، وهنا تم الاشتغال بمهارة ملفتة للنظر في استخدام الخدع السينمائية البارعة، في التصوير من أعلى. ومن جانب آخر يحمل الفيلم قتامة هائلة من خلال مأساة اللاجئين المطاردين في مخيمات اللجوء، وبحث أريان عن والده وهو خط أساس في السرد الفيلمي يقابله خط سردي آخر يرتبط بالطبيب شتيرن. حياة هذا الطبيب المأساوية تتجلى من خلال اكتشاف أن أريان لا يشرب الخمر، ليس لأسباب دينية وإنما شخصية، ويؤيده شتيرن في ذلك لسبب بسيط وهو أنه كان قد شرب كثيرا من الخمر ممّا أفقد القدرة على التركيز، والتسبب بوفاة شاب بسبب حقنة إبرة في النخاع. وشتيرن ما يزال يجمع كل ما يحصل عليه من رشوة، فضلا عن راتبه الشهري ليسلمه لصديقته الممرضة فيرا (الممثلة مونيكا بالساي)، وهي تريد أن يكتمل المبلغ الذي على شتيرن أن يدفعه تعويضا لعائلة الشاب الذي تسبب في قتله، حيث أن الاستلاب والضياع الكامل لشتيرن يقابله ضياع مشابه تقريبا لدى اللاجئ أريان، فهما يعيشان محنتين مختلفتين. على صعيد التمثيل، لا شك أن الممثلين الرئيسيين هم الأكثر براعة في تجسيد أدوارهم، الضابط والطبيب واللاجئ والممرضة فهم يتنقلون في المشاهد الفيلمية في إطار هارموني متقن. ومن جانب آخر، كان التنوع المكاني عنصرا إضافيا آخر، إذ حفل الفيلم بالعديد من الأماكن، على الرغم من أن المستشفى كان مكانا رئيسيا، فضلا عن التصوير في الشوارع والأماكن الحقيقية. كما أن المونتاج وحركة الكاميرا والإدارة الفنية كلها عناصر مهمة أسهمت في تقديم بناء صوري كثيف وشديد الدلالة، ممّا عمّق الإحساس بتلك الدراما المتصاعدة والتي امتزج فيها الواقع بالخيال العلمي. ويحفل الفيلم أيضا بمطاردات ومشاهد حركة تم إخراجها ببراعة، وخاصة ساعة هرب شتيرن من عصابة لازلو الشرير، حتى تقع بينهما مواجهة تنتهي بمصرع شتيرن، فيما يلوذ أريان بالفرار من سطوة لازلو، وهو يشاهد الطبيب الذي ساعده مضرجا بدمه. هي دراما مكثفة لتراجيديا إنسانية تحمل هامشا واسعا من الواقعية التي تمتزج بخيال علمي، لا يقودنا إلى ما هو أبعد من الإحساس بجراحات أريان وأحزانه. المهارة تكمن أيضا في صنع دراما الخيال العلمي المبهرة على أرضية شديدة الواقعية، وهي عقبة كان قد تخلص المخرج منها ببراعة ليقدم فيلما متميزا فيه جميع مواصفات الفيلم الناجح.
مشاركة :