بعد أربع سنوات من الاستقرار السعري وفي مستويات مرتفعة نسبياً تهاوت أسعار النفط فاقدة أكثر من 50 في المئة من أعلى قيمها بشكل مفاجئ وفي فترة قياسية؛ لتثير الكثير من التساؤلات والتكهنات حول مستقبل هذا القطاع وتداعيات انخفاض الأسعار على الدول المنتجة، ومن ضمنها السعودية. تناقش هذه المقالة الهبوط الأخير في أسعار النفط وما صاحبه من ردود أفعال وتداعيات هذا الانخفاض الاقتصادي على قطاع النفط، ولاسيما السعودية. هبوط أسعار النفط ومسبباته: ليست هذه المرة الأولى التي تتعرض فيها أسعار النفط لضغوط سعرية، سواء من جانب الطلب أم العرض. آخِر تلك الضغوط قبل الهبوط الأخير كانت بسبب الطلب على خلفية الأزمة المالية العالمية، إذ تهاوت الأسعار بما يزيد على 60 في المئة في فترة وجيزة مدفوعة بانخفاض الطلب عن النفط؛ لدخول معظم الدول المستهلكة في دائرة الركود أو التباطؤ الاقتصادي. سارعت حينها منظمة أوبك في تقليص حصص الإنتاج على ثلاث مراحل في النصف الثاني من عام 2008، وبلغ إجمالي التقليص الإنتاجي فيها 4.2 مليون برميل أو 12 في المئة من إجمالي إنتاج دول المنظمة قبل الأزمة الاقتصادية؛ لامتصاص الفائض في العرض، أسهم هذا الإجراء في إعادة التوازن للسوق النفطية، إذ أخذت الأسعار مساراً تصاعدياً في النصف الأول من 2009. (المصدر: وزارة الطاقة الأميركية). أما بالنسبة إلى ما حدث في الأشهر الماضية من انخفاض في أسعار النفط فقد نبع من العرض والطلب في آن واحد، مشكلاً ضغطاً مضاعفاً على أسعار النفط، فمن جانب الطلب خفضت وكالة الطاقة الدولية IEA توقعاتها لنمو الطلب على النفط الأسبوع الماضي للمرة الرابعة في خمسة أشهر؛ لتباطؤ اقتصادات كل من روسيا والصين واليابان ومنطقة اليورو؛ فآثار العقوبات الاقتصادية وكلفة الحرب في أوكرانيا بدأت تنعكس على الاقتصاد الروسي الذي يُتوقع أن يدخل مرحلة الركود، أما الصين فقد خفضت معدلات نموها الاقتصادي إلى ما دون 8 في المئة؛ لتباطؤ النمو في الناتج الصناعي، بل وانكماشه بحسب بيانات شهر كانون الأول (ديسمبر)، كما دخلت اليابان مرحلة جديدة من الركود الاقتصادي، بسبب السياسات الضريبية التي اتخذتها الحكومة مطلع العام، أما منطقة اليورو فلا تزال تعاني تبعات أزمة الديون السيادية، إذ لا يزال النمو الاقتصادي ضعيفاً جداً مع إمكان انزلاق المنطقة إلى دوامة الركود الاقتصادي.الجانب الآخر من المعادلة الاقتصادية التي عصفت بأسعار النفط كان مصدره الولايات المتحدة، متمثلاً بطفرة إنتاجية من حقول ما يعرف بالنفط الصخري Shale oil، الذي أسهم ارتفاع أسعار النفط في السنوات الماضية مع التطورات التقنية في جعل استخراجه مجدياً اقتصادياً، فمع استقرار أسعار النفط فوق 100 دولار للبرميل منذ 2010 تمكنت شركات أميركية من ابتكار وسائل تقنية تمكِّن من استخراج النفط العالق بين الطبقات الصخرية بكلفة تراوح بين 50 و80 دولاراً للبرميل، ومن ثم تحقيق ربح مجزٍ، بشرط أن يستمر سعر برميل النفط فوق أسعار الكلفة. نتج من ذلك ما أطلق عليها طفرة النفط الصخري في الولايات المتحدة، إذ ارتفع إنتاجها بمقدار 3.2 برميل يومياً منذ 2010، وهو ما يعادل إنتاج إيران، وأدت هذه الطفرة إلى إغراق السوق وخلق فائض في العرض يقدره بعض المحللين بمليون برميل يومياً، وهو مرشح للازدياد، بل يتوقع الكثير من الخبراء أن تتحول الولايات المتحدة من استيراد النفط إلى تصديره في العقد المقبل، إذا ما استمرت طفرة الإنتاج هذه. (المصدر: وزارة الطاقة الأميركية) رد فعل «أوبك» ومع هذه الضغوط من العرض والطلب تهاوت الأسعار في فترة قياسية، وكالعادة اتجهت الأنظار إلى منظمة أوبك التي عقدت اجتماعها نهاية الشهر الماضي؛ لبحث إمكان خفض الإنتاج بحسب رغبات الدول التي تعيش ظروفاً اقتصادية خانقة، ولاسيما إيران وفنزويلا والعراق. أما السعودية وبقية دول مجلس التعاون فقد اتخذت موقف الإبقاء على مستويات الإنتاج الحالية والتعويل على آليات الطلب والعرض؛ لتحقيق استقرار الأسعار على المدى المتوسط. وفي نهاية المطاف اتفقت دول المنظمة على عدم خفض الإنتاج، مرسلةً موجة من الذعر في سوق التداولات، تكبد فيها سعر برميل النفط مزيداً من الخسائر.وهنا كثرت التحليلات حول سبب عدم خفض الإنتاج، كما جرت العادة في السنوات السابقة، فبعضهم تحدث عن حرب اقتصادية تشنها السعودية على إيران؛ لتدخلاتها السياسية والعسكرية في دول المنطقة، وآخرون تحدثوا عن تحالف أميركي-سعودي؛ للضغط على روسيا وإيران في قضيتي أوكرانيا والبرنامج النووي الإيراني، واتجه محللون إلى تفسير موقف المنظمة بأنه إعلان مواجهة مع النفط الصخري؛ لإفلاس الشركات المنتجة، ومن ثم استعادة الحصة السوقية والسيطرة على الأسعار. يصعب التكهن بتفاصيل ما دار في اجتماع دول المنظمة وما سبقه من محادثات، ولكن ما لا شك فيه أن بقاء الأسعار في مستوياتها الحالية سيترك آثاراً اقتصادية كبيرة في الدول المنتجة والمستهلكة والسوق النفطية بشكل عام، بل إن قرار المنظمة بالإبقاء على مستويات الإنتاج بحد ذاته أدى إلى تهاوي الأسعار بشكل أكثر حدةً من الانخفاضات التي سبقت الاجتماع كمؤشر على دور العامل النفسي -إضافة إلى عاملي العرض والطلب- في الضغط على الأسعار نحو مزيد من الهبوط. التداعيات على اقتصاد السعودية: إن الأثر الاقتصادي في الدول المنتجة ينجم عن اعتماد موازناتها على عوائد الصادرات النفطية، ولتحليل هذا الأثر يجب النظر إلى كل من نسبة العوائد النفطية إلى غيرها في الموازنات العامة، إضافة إلى سعر برميل النفط الذي تحقق بموجبه الموازنة التوازنَ بين العوائد والنفقات، وهو ما يعرف بسعر نقطة التعادل لبرميل النفط Break-even price للموازنة العامة، الذي يتفاوت بشكل كبير بين الدول المنتجة، إذ يصل إلى 140 لإيران و100 لروسيا و70 للكويت، بحسب تقرير أعدته مجلة «إيكونمست» أخيراً. أما في السعودية فإن موازنة 2014 التي تشارف على الانتهاء فقد حددت الحكومة العائدات النفطية بـ735 بليون ريال والعائدات غير النفطية بـ120 بليون ريال. وللترابط الكبير بين الاقتصاد الكلي للمملكة وقطاع النفط فحتى العائدات غير النفطية تتأثر عادةً بتقلبات سوق النفط، وإن كان بشكل أقل من العائدات النفطية. وقد بلغ إنتاج السعودية النفطي 9.5 مليون برميل، العام الماضي، صُدر حوالى 7.5 مليون برميل منها، واستهلاك مليوني برميل يومياً في حاجات النقل والصناعة وغيرها (لا ينتظر أن تتغير هذه المستويات كثيراً هذا العام). من المعطيات الأخرى المؤثرة هنا: ارتباط خامات النفط السعودية بمزيج برنت، وكذلك كلفة إنتاج برميل النفط في السعودية، الذي يضعه بعض الخبراء بأقل من 5 دولار للبرميل. وأخذاً بهذه المعطيات نتوقع هنا أن سعر 80 إلى 85 دولاراً لخام برنت يحقق موازنة متوازِنة للسعودية في العام الحالي، مع العلم بأن معدل خام برنت للعام الحالي يتجه نحو 95 دولاراً. أي أن موازنة السعودية للعام الحالي تتجه نحو تحقيق فائض مالي إلا إذا ما تجاوزت النفقات ما رُصد بشكل كبير، أي في حال تجاوز حجم النفقات 25 في المئة مما رُصد وهو 855 بليوناً، وذلك أمر غير مستبعد، بالنظر إلى نفقات العام الماضي (2013)، التي أيضاً تجاوزت ما رُصد في الموازنة السابقة؛ إذ بلغ حجم الإنفاق الفعلي حينها نحو ترليون ريال. أما في العام المقبل فإذا استمرت الأسعار بمستوياتها الحالية مع استمرار النفقات الحكومية في الارتفاع فقد يصل معدل العجز في الموازنة إلى 30 في المئة أو 300 بليون ريال. ولكن وإن كان هذا العجز كبيراً فإن السعودية تتمتع برصيد احتياطات نقدية ضخمة كفيلة بسد أي عجز مالي سنوات عدة، إذ بلغت احتياطات مؤسسة النقد العربي السعودي نحو ثلاثة ترليونات ريال، وُفرت من فوائض موازنات السنوات الماضية. كما أن قدرة السعودية على الاستدانة لتسديد العجز تعد عالية، وتتمتع بتصنيفات ائتمانية إيجابية، إذ إن الدَّين العام للسعودية يكاد لا يذكر، إذ بلغ أقل من 3 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي، وهو معدل منخفض جداً، إذا ما قورن بمعظم دول العالم الأخرى (يصل المعدل العالمي إلى 50 في المئة) أو حتى مقارنة بمستوياته في السعودية في نهاية التسعينات الميلادية (قارب 100 في المئة من الناتج المحلي). (المصدر: مؤسسة النقد العربي السعودي) الأثر في المواطن لا شك أن استمرار أسعار النفط في الهبوط أو بقاءها على مستوياتها الحالية بضع سنوات سيكون له تأثير سلبي في رفاهية المواطن السعودي؛ بسبب اعتماد الاقتصاد الوطني والموازنة العامة على صادرات النفط. أما في المنظور القصير فمن المستبعد أن يحصل تأثير يُذكر؛ للوضع المالي المتماسك للسعودية الذي ذُكر آنفاً والقادر على امتصاص أي صدمة على الاقتصاد الوطني، من خلال الإنفاق الحكومي بشقيه الرأسمالي والتشغيلي، فالإنفاق الرأسمالي يعزز من جودة الخدمات التي تقدمها الدولة عبر تطوير وبناء المزيد من الطرق والمستشفيات والمؤسسات التعليمية والإسكان وغيرها من مشاريع التنمية، التي تُسهم في تقديم حياة أفضل للمواطن، كما تسهم المشاريع في تحفيز القطاع الخاص وضخ السيولة في الاقتصاد الوطني. أما النفقات التشغيلية فاستمرارها يعني استمرارية الرواتب لموظفي الدولة وخلق المزيد من الوظائف في القطاع الحكومي، إذ يعمل نحو نصف السعوديين. فبالنسبة إلى النفقات الرأسمالية، التي تقدر بـ30 في المئة من حجم الموازنة في الأعوام الستة السابقة فمن المنتظر أن تستمر عامين مقبلين -على أقل تقدير-، وبغض النظر عن أسعار النفط، وقد أكد وزير المالية ذلك أخيراً من خلال تصريحه استباقاً لصدور الموازنة الإثنين المقبل، ولكن من غير المستبعد أن يتم تقليص هذه النفقات بشكل محدود عبر التركيز على المشاريع التنموية ذات التأثير الأكبر في المواطن. أما في حال بقاء أسعار النفط في مستوياتها الحالية سنوات عدة أخرى فقد تنخفض نفقات المشاريع إلى ما دون 10 في المئة من إجمالي الموازنة، كما حصل عند هبوط الأسعار في فترة التسعينات، وعندها فقط سيشعر المواطن بتباطؤ عجلة التنمية والانخفاض في مستوى الخدمات. (المصدر: مؤسسة النقد العربي السعودي) أما بالنسبة إلى النفقات التشغيلية فإنه عطفاً على حجمها الحالي فمن المستبعد جداً أن تعجز الحكومة عن الإيفاء بالتزاماتها تجاه عقود تشغيل وصيانة ورواتب موظفي الدولة ومصروفات الدعم وغيرها من النفقات التشغيلية على المديين القصير والمتوسط، حتى مع مستوى الأسعار الحالي، فسعر 50 دولاراً للبرميل كفيل بتغطية هذه النفقات، من دون الحاجة إلى الاستدانة أو السحب من الاحتياطات النقدية.
مشاركة :