تحتفي جامعات العالم كله بتانر أكسام، وهو يقفز من عاصمة إلى أخرى مسلحاً بوثائق هي ثمرة جنى العمر جمعها في كتاب بالإنكليزية والتركية عنوانه تقشعر له الأبدان :»أوامر القتل. برقيات طلعت باشا والإبادة الأرمنية» (بالغراف مكميلن، 2018). فكتابه يتناول أوامر إبادة الأرمن الأتراك عن بكرة أبيهم. والكتاب هو حلقة حيوية في دراسة هذه المجزرة التي أودت بحياة أكثر من 1.5 مليون أرمني بين 1915 و1918، وتنفي الحكومات التركية المتتابعة هذه الإبادة. ولكن كتاب تانر أكسام يقدم بينات بائنة لا تدحض، على قوله، على الإعداد للإبادة وتنفيذها. و «أخيراً»، يقول، أخيراً الحقيقة! وأخيراً، تُبلسم جروح الأرمن في مواجهة الإبادة، ثم في غياب الإقرار الرسمي بحصولها وبمسؤولية مرتكبيها وورثتهم. ولا يخفى تانر أكسام، الباحث التركي، أن الإقرار بالإبادة عسير. فالمسألة وثيقة الصلة بالهوية الوطنية التركية. ومثل هذا الإقرار يطعن في كل ما بُنيت عليه الجمهورية التركية ويطيح بالسردية الوطنية. «هذا متعذر! ولا ينتظر أكسام رداً رسمياً تركياً يتجاوز النفي، مثلما هي الحال منذ نشأة الجمهورية التركية في 1923. «بذلوا ما في وسعهم لتلف الأدلة وطمس آثار الإبادة. ولن يتوانوا عن اختراع ما يدحض عملي. ولكن مسار الحقيقة انطلق! والكتاب هو أداة في يد المجتمع الدولي للضغط على الحكومة التركية. ولا يسع أي شعب المضي قدماً ما لم يواجه ماضيه». ويوافقه الرأي حميد بورزسلان، مدير البحوث في مدرسات الدراسات الاجتماعية العليا في باريس، ويرى أن «النظام التركي يطيح القدرات المعرفية في المجتمع التركي، ولا يقيم وزناً للمعرفة التاريخية. و «لا يتناول الرأي العام التركي عمل تانر أكسام بالنقاش، ولن يساهم في تغيير ما في أمر المجتمع هذا». ووصف المؤرخ الأميركي، إريك ويتز، المختص في شؤون تاريخ ألمانيا المعاصر والأعمال ضد الإنسانية، تانر أكسام بـ «شرلوك هولمز الإبادة الأرمنية» في صحيفة «نيويورك تايمز». ولا شك في أن الوقوع على وثائق حاسمة في تثبيت الإبادة الأرمنية مثلما فعل أكسام، يقتضي قدرات محقق لامع. ونشرت جامعة كلارك في ماساتشوستس الأميركية الوثائق هذه على موقعها الإلكتروني منذ نهاية 2017. ولكن كيف انتهى الأمر بتانر أكسام المولود في 1953 في شمال شرقي تركيا (أرض الأرمن سابقاً) في أسرة من الأساتذة الجامعيين لا صلة تربطهم أبداً بأرمينيا، إلى الانشغال بهذه المسألة وهذه الصفحة من التاريخ التركي التي يزدريها المثقفون الأتراك، ويجمعون على أنها «ليست مسألة». وهو بدأ تحصيله العلمي في جامعة أنقرة في السبعينات، ودرس الاقتصاد. وفي مرحلة توتر سياسي عظيم في تركيا، وقع انقلاب عسكري في 1971 وحمل إلى سدة السلطة محافظين، وإسلاميين وفاشيين. وسعى تانر أكسام إلى تنظيم حركة «مقاومة» للسلطة في الجامعة، وعين في الثانية والعشرين من العمر في منصب مدير مجلة «الشباب الثوري». فاعتقل بتهمة الترويج لبروبغندا شيوعية وكردية، وكان سجين رأي، وحكم عليه بالسجن 7 سنوات. ولكنه فرّ من السجن، ولجأ إلى ألمانيا. وطوال عقد على وجه التقريب، واصل العمل السياسي ضد النظام التركي، فجمع في حركة واحدة الطلاب والعمال المنفيين، ونظم إضراباً عن الطعام مطالباً السلطات المحلية في ألمانيا على التحقيق في اختفاء معارضين لتركيا، ثم تحالف مع «حزب العمال الكردستاني» قبل أن يكتشف تجاوزات الحزب هذا ويتعرض لمحاولة اغتيال. فغير أكسام توجهاته، وبدأ العمل في البحوث الجامعية، وتناول في البدء مسألة التعذيب في السلطنة العثمانية وتركيا. ومع قراءاته، اطلع على سلسلة مجازر منها إبادة الأرمن في 1915، ولكنه لم يتوقف عندها. فهو مثل غيره من الأتراك كان يرى أنها من أضرار الحرب العالمية الأولى. ولكن زميلة جامعية له من أصول أرمنية حثته على العناية بمسألة الإبادة. فبدأ بدراسة دعاوى «جرائم الحرب» في السلطنة العثمانية بين 1919 و1921. وأوصدت أبواب البحث أمامه في تركيا، ولم يؤيده المثقفون الأتراك، ونددوا به ووصفوه بـ «عدو الأتراك الذي باع نفسه مقابل المال الأرمني». ودعمه والده في مسعاه، وقال له «النضال من أجل الحقيقة واجب!». فهاجر إلى الولايات المتحدة في 2002، حيث رحبت جامعات كثيرة باستضافته. ولكن زوجته بعد سفرهما إلى تركيا والتعرض لتهديدات الموت، رفضت مرافقته إلى أميركا، وسلمته ابنتهما البالغة من العمر 10 سنوات. «كانت لحظات وحدة مريرة. فبأي حق أدمر عائلتي من أجل مواصلة العمل على مسألة الإبادة... آمل أن تسامحني زوجتي وابنتي يوماً ما». ويعود الفضل في كتابته «أوامر القتل...» إلى صدف جمعته بأشخاص مدهشين، أولهم آرام أندونيان، وهو مثقف أرمني نجا من الإبادة وجمع وثائق وأدلة عنها. وقابل أندونيان في 1918 موظفاً في الإدارة العثمانية، نعيم أفندي. وكان هذا يعمل أثناء الإبادة في مكتب الترحيل في حلب، واطلع على وثائق كثيرة، منها برقيات وزارة الداخلية يومها، على رأسها طلعت باشا، تأمر بتصفية الأرمن كلهم، رجالاً ونساء وأطفالاً. ونعيم باشا سجّل ملاحظات حين كان يعمل في مكتب الترحيل، وعرفت الملاحظات هذه في وقت لاحق بـ «المذكرات». ونسخ 52 وثيقة رسمية، وأبدى الاستعداد لبيعها لأندونيان. وهذا التقاه في فندق بارون في حلب، حيث زوده نعيم بالوثائق. ونزولاً على إلحاح أندونيان وحاجته إلى المال، زوده بـ24 وثيقة. ومحتواها مخيف، فعلى سبيل المثل، تنص رسالة طلعت باشا في 22 أيلول (سبتبمر) 1915 على «إلغاء حقوق الأرمن على الأرض التركية... حق العيش والعمل، يجب ألا تقيض الحياة لأحد، ولو كان رضيعاً في مهده». وسارع أندونيان إلى نشر هذه الوثائق في كتاب صدر في 1920- 1921. وفي 1983 ردت الجمعية التركية للتاريخ على عمل أندونيان، وطعنت في صحة الوثائق هذه. وزعمت أن نعيم أفندي شخصية خيالية، وأن البرقيات المنسوبة إلى طلعت باشا كاذبة. ولم يسع أحد حين صدور كتاب أندونيان إثبات وجود نعيم أفندي ولا نشر الوثائق الأصلية المذكورة في عمله. وفقد أثر وثائق أندونيان إثر تسليمها إلى وسيط البطريرك زافين للمساهمة في إدانة مدير مكتب الترحيل في حلب، عبدالأحد نوري، في محاكمته أمام محكمة عسكرية في إسطنبول. فالقضاء العثماني حينها تناول الجرائم الجماعية المرتكبة خلال الحرب العالمية الأولى. وبين 1919 و1920، حكمت محاكم عسكرية عثمانية بالموت على المسؤولين البارزين في نظام «تركيا الفتاة». ولكن محاكمة من عرفوا بـ «الوحدويين» توقفت جراء بروز الكماليين وإبرام معاهدة سيفر في 1920، التي أعلنت تقطيع أوصال السلطنة العثمانية. وفقد أندونيان كذلك أثر وثائق سلمها إلى القضاء الألماني في 1921 ليثبت مسؤولية طلعت باشا- وهذا اغتيل في مدينة ألمانية في 15 آذار (مارس) 1921- عن الإبادة في سياق محاكمة قاتله سوغومون تهليريان. ولكن المحاكمة توقفت، ولم يستطع أندونيان استرجاع عدد من الوثائق. وهو أودع شطراً آخراً منها في مكتبة نوبار في باريس. والمكتبة هذه هي مركز الذاكرة الأرمنية في فرنسا ومنجم للباحثين. وتولى أندونيان إدارة المكتبة هذه من 1928 إلى حين وفاته في 1952. وعلى رغم أن تانر أكسام لم يجد أثراً لهذه الوثائق في مكتبة نوبار، لم يستسلم. وبدأ يتابع سيرة الكاهن الكاثوليكي الأرمني، كريكور غرغيريان، المولود في 1911 في أسرة من 16 طفلاً، قتل عشرة منهم في الإبادة، وكان شاهداً على قتل والديه. وأفلح في الوصول إلى بيروت مع شقيقه الأكبر، وشبَّ في ميتم، ثم التحق بالجامعة، وتابع دراسة في اللاهوث وسيم كاهناً وبدأ أطروحة دكتوراه عن الإبادة. ثم انتقل إلى القاهرة حيث تعرف على نمرود مصطفى باشا، وهو قاض سابق في أول محكمة عسكرية في إسطنبول التي نظرت بين 1919 و1920 في دعاوى الإبادة. ولكن الكماليين اعتبروا خائناً، ففر إلى مصر. وأعلم نمـــــرود بـــاشا كريكور غيرغريان أن نسخة من الملف القضائي للإبادة سلّمت إلى بطريركية الأرمن في القسطنطينية، وأنه نقل الوثائق هذه، حين استيلاء الكماليين على الحكم، إلى مارسيليا في عهدة الأرمني غريـــــغوريس بالاكيان. وكان مصير هذه الوثائق مضطرباً، فنقلت إلى مانشيستر في المملكة المتحدة، في وقت أول، ثم سلمت إلى البطريركية الأرمنية في القدس. وسارع غيرغيريان إلى المدينة المقدسة، وصوّر ما وجده: برقيات أوامر الإبادة وشهادات الموظفين المدنيين والعسكريين، وشهادات شهود وإفادات مدنيين ومتهمين. ثم قصد مكتبة نوبار في 1950 وصوَّر «كنز» أندونيان. وسار تانر أكسام على خطى كريكور غيرغيريان، فقادته الأبحاث إلى نيويورك حيث عثر على ابن شقيق الطبيب إدموند غيرغيريان، وهذا أبلغه وفاة الأب كريكور غيرغيريان. وبعد أشهر، سمح له بالاطلاع على أرشيف الراهب المؤلف من آلاف الوثائق المودعة في قبو مبنى في منطقة كوين الأميركية. وفي نيسان (أبريل) 2015، بعد مئة عام على الإبادة، حالف الحظ تانر أكسام حين أمسك عشوائياً بملف من أرشيف الأب كريكور غيرغيريان. فوقعت منه ورقة بيضاء مطوية: في جانب منها مكتوب عليها بالتركية المعاصرة، وفي الجانب الآخر بالإنكليزية، وأدرك أن ما بين يديه هو مقتطف من «مذكرات» الموظف نعيم أفندي. وانصرف إلى نسخ الوثائق بالتصوير الضوئي، وترجمتها وتحليلها وفك شيفرتها للرد على طعون المؤرخين الأتراك. وبدأ «شرلوك هولمز» عملية إثبات وجود نعيم أفندي و «مذكراته» غير المنحولة. وحين اطلاعه على أرشيف قيادة الأركان العسكرية التركية، وقع أكسام على ذكر نعيم أفندي في مكتب الترحيل في حلب، وعلى أدلة على استدعائه للشهادة في 14 و15 تشرين الثاني (نوفمبر) 1916 في قضية فساد وإهمال الجندرمة أثناء ترحيل الأرمن بين حلب ودير الزور. ثم عثر على اسمه في أكثر من وثيقة في مراسلات رسمية لطلعت باشا في 1951. وثبت أن نعيم أفندي كان من شحم ولحم وليس من بنات خيال الأرمن. ثم سعى أكسام إلى اثبات صحة الوثائق التي بين يديه وصحة «فك شيفرة» البرقيات. وهو استفاد من التشريع الجزئي لأبواب الأرشيف التركي في 2002، ثم رفع السرية في مطلع 2010 عن وثائق تركية من الحرب الأولى، لجمع كمية كبيرة من الوثائق. وبدأ يقتفي أثر شخصية نافذة في تلك المرحلة: الطبيب بهاء الدين شاكر، وهو كان عضواً في الحزب الحاكم في القسطنطينية منذ ثورة «تركيا الفتاة» في 1908. وكان بهاء الدين شاكر مسؤولاً كبيراً في النظام هذا ورئيس «المنظمة الخاصة» في «الاتحاد والترقي» المكلفة بتنفيذ أوامر القتل. وفي آب (أغسطس) 1914، وإثر اندلاع الحرب الأولى، كان بهاء الدين شاكر يجول في أقاصي السلطنة ويشرف على حال «المنظمة الخاصة»، وقبل أن يبدأ رحلته، تسلم مفتاح من مفاتيح شيفرة وزارة الداخلية، وطُلب منه التزام شيفرة من أربعة أرقام بالعربية في برقياته. وانكب أكسام على هذه الوثائق في ربيع 2015، وكان شاغله المقارنة بين البرقيات المختلفة، مراسلات الحكومة العثمانية- وهذه رفعت السرية عن شطر كبير منها وفكت شيفرتها- وبين برقيات بهاء الدين شاكر. ووسعه إثبات أن رموز الشيفرة هي واحدة بين البرقيات الرسمية وبين برقيات طلعت باشا. وفي مسعاه إلى تقديم البينات على أن الشيفرة واحدة في هذه البرقيات وبرقيات الوزير طلعت باشا، التزم الدقة، وقارن من كثب البرقيات، كلمة كلمة ورقماً رقماً. وبعد أشهر، أثبت أوجه الشبه الكامل بين المصدرين. فبرقيات الموت «رسمية»، والبيّنات على ذلك بائنة توجه ضربة قاصمة إلى من ينفي الإبادة. * صحافيان، عن «لو موند» الفرنسية، 27/9/2018، إعداد منال نحاس
مشاركة :