فكرة العودة إلى السعودية كانت دائماً حاضرة في ذهنه. لم يكن جمال خاشقجي سعيداً بأنه اختار "الغربة والسلامة" بعيداً عن وطنه. كان دائم التوق إلى العودة والحديث في شؤون بلاده ومستقبلها مع أصدقائه وحتى مع أركان السلطة. في واحد من لقاءين جمعانا في ضواحي العاصمة الأمريكية واشنطن، حدّثني عن نظرته إلى العلاقة المثالية التي يمكن أن تربط بين الصحافي والكاتب وبين المسؤولين. كان يحبّ أن تساهم كتاباته في فتح نقاشات مع المسؤولين عن القضايا التي يسلّط الضوء عليها. لم يكن صحافياً يدعو إلى الثورة وقلب أنظمة حكم. كان هادئاً وكل ما يريده هو الحوار، فقط الحوار. صعبة الكتابة عن شخص التقيتَه وكنت تحبّ اللقاء به مجدداً ثم فجأة يأتيك خبر صاعق: اختفى! أو بالأحرى أُخفي. شخصية هادئة ورصينة. رجل حالم ولكنه يحلم بواقعية. من القلّة التي لا تزال تؤمن بتأثير الكلمة. هكذا هو جمال. كُثر يحاولون وضعه في خانة إيديولوجية وسياسية معيّنة، خاصةً حديثاً مع سعي البعض إلى الاستثمار في جريمة إخفائه، ولكن هذه المحاولات فاشلة. بالطبع، لم يكن رجلاً بلا انحيازات إيديولوجية وسياسية، بعضها نابع من تجارب خاصة خاضها وبعضها نابع من مراقبته لما يدور حوله. ولكنه، في كل نقاش خضناه أثبت أن انحيازاته لا تعميه عن رؤية حسنات وسيئات في كل الأطراف. مواقفه وتحليلاته، على الأقل التي كنت شاهداً عياناً عليها، تميّزت دائماً بالانفتاح. شخص بهذه العقلية لا يمكن تأطيره.جمال والحرية "يحق للحكام كل شيء ولكن لا يجوز لمواطن يريد ممارسة حريته أن يفعل مثلهم ويلقي كلمة يعرض فيها ‘وجهة نظره’، مجرد وجهة نظر!"، كتب جمال في واحد من مقالاته السبع التي نشرها في رصيف22. خلال مشاركته قبل أشهر في منتدى أوسلو للحرية في العاصمة النرويجية، لفتته مشاهد كثيرة. هناك، اكتشف أنه ليس وحده مَن يعاني من "الضيق"، وكتب: "كنت دوماً أحسبه بسبب فقدان الوطن، والحنين إليه، ولكني اكتشفت خلال محاضرة لاحقة أن 19 في المئة من الناشطين الحقوقيين يعانون من PTSD أي ‘حالة اضطراب حاد ما بعد صدمة عنيفة’". وأضاف: "السياسي لا يدرك مدى الضرر الذي يقع على ‘ابن الناس’ الكاتب، أو إمام المسجد، الصحافي، المثقف، الاقتصادي عندما يلقي به في السجن دون سبب، لمجرد تخويف بقية الشعب". كان جمال يخاف من فكرة السجن ومن آثار تجربته على الناشطين، هو الذي روى له سجناء سابقون كثيرون كيف لا يزال سجانهم يطاردهم كل يوم في خيالهم رغم أنهم استعادوا حريتهم. "أصعب شيء أن تُسجن دون سبب. المثقف ليس مجرماً، لذلك تجده دوماً غير مستعد للسجن"، كتب. ومن هنا، كان يدعو إلى البحث عن "صيغة ما للمعارضة لا تودي إلى السجون والمواجهة"، مع يقينه بأنه من الصعب التوصل إلى صيغة مشابهة، وكان يعتبر "أن أية حركة سياسية تتساهل في قرارات تودي بشبابها إلى السجن هي حركة غير مسؤولة وكذلك معارضو الخارج الذي يحرّضون مَن في الداخل على الغضب والتحرك ومناكفة الحاكم". تحدث عن تجربة الناشطة الأذرية ليلى يونس، التي احتجّت على منح بلادها حق استضافة الألعاب الأوروبية عام 2014، و"هزئت" من منح الدول الأوروبية "الحرة" حكومة قمعية هذا الشرف، فاعتُقلت واتهمت بخيانة وطنها وطعنه في الظهر. ولعلّه رأى نفسه فيها عندما كتب: "هي بالتأكيد تعشق وطنها، ولكنها لا تحب الحكومة. مَن يشرح ذلك للزعيم وإعلامه الذي يروّج لمفهوم ‘أنا الوطن، والوطن أنا’؟". الإيمان بالمواطن العربي كان جمال يؤمن بالمواطن العربي. كتب: "مشاعر الحرية وآمالها حاضرة فينا، يخفيها ويدفنها القمع والخوف ولكنها تظهر مع أول تباشير الحرية والانعتاق من الاستبداد"، منتقداً مَن تخلّوا عن حلم الربيع العربي ممن "رأوا أين الريح ماضية فآثروا السلامة والكسب ومضوا خلفها". "العرب قادرون على إجادة الديمقراطية، شرط أن يمارسوها ويقبلوا بنتائجها"، كتب مضيفاً أن عدم القبول بنتيجة الانتخابات هو ما أسقط التجارب الديمقراطية التي برزت بعد ثورات الربيع العربي. انتقد مَن يصعّبون النقاش حول ماهية النظام الديمقراطي مستعيراً من رئيس منتدى أوسلو للحرية ثور هالفورسن قوله البسيط: "طالما أنه تجري في بلد انتخابات حرة ويحكم فيها القانون، ويتمتع مواطنوها بحرية التعبير والصحافة فهو بلد حر". هذه هي الحدود الدنيا التي كان يطالب بها جمال. نظر إلى المتراجعين عن دعمهم للمسار الديمقراطي العربي كـ"ضحايا"، وكتب عنهم: "هؤلاء هم أيضاً ضحايا، يستحقون محاضرة يوماً ما في منتدى أوسلو للحرية عنوانها ‘لماذا ينهار البعض ويخون قضيته؟’، تناقش إذا ما كانوا يشعرون بألم وخجل؟ وهل تهكمهم وهجومهم على الحرية وأشخاصها جزء من العلاج الذي يخلصهم من مشاعر الندم والنكوص؟ هل هو المال والخوف من الإقصاء؟". جمال والأنظمة ضرورة الديمقراطية كانت محرّك كل أفكاره عن الأنظمة العربية. منها ينطلق وعليها يؤسس بناء ما سيتحدث فيه. كان ينتقد ازدواجية التعاطي مع قضايا حقوق الإنسان وينتقد غلبة كفة المصالح في ميزان الدول على كفة دعم الحريات. انتقد كل مظاهر هذه الازدواجية التي رآها في أمثلة كثيرة منها سياسات إدارة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، ومنها مشهد احتفاء الرئيس التركي رجب طيب أردوغان بالرئيس الأذري "الطاغية" إلهام علييف، وكتب عن ذلك: "إنها المصالح التي تجعل أردوغان يهتم بحقوق الإنسان في مصر ويتجاهلها في أذربيجان"، ومنها أيضاً مشهد اللاجئين العرب الفارين من القمع والذين دعوا الله أن يفوز أردوغان في الانتخابات الرئاسة السابقة وكانوا "غير معنيين بنحو خمسين ألف تركي معتقل منذ المحاولة الانقلابية الفاشلة" لأن ما يهمهم هو بقاء تركيا كملاذ آمن لهم.جمال و"إصلاحات" بن سلمان نظر جمال بإيجابية إلى أحد أوجه "إصلاحات" ولي العهد السعودي محمد بن سلمان. رأى فيه رجلاً قادراً على إخراج السعودية والسعوديين "من التزمّت الديني الذي انعكس على الحياة اليومية والمجتمع والفن" و"نقلهم إلى الدنيا المعاصرة بسعتها ومتعها". أعجبته خطوات "إصلاح سوق العمل" لأنها "لو اكتملت سوف تغيّر وجه السعودية واقتصادها بشكل جذري وعميق"، وقد تساعد في إحياء "ثقافة العمل" في أوساط السعوديين، هو الذي نشر أفكاره الخاصة حول حاجات الاقتصاد السعودي الملحة في كتابه "احتلال السوق السعودي" (2013). ولكنه كان يرى أن بعض الخطط الضخمة غير مدروسة وهدفها الاستعراض ولن يكون لها أثر إيجابي على الاقتصاد. كان يشكك في جدوى مشروع نيوم. في أحد لقاءينا قال لي إنه في ما عدا أن نجاح هذا المشروع صعب فإنه بدلاً من بناء ما يشبه غيتو منعزل عن باقي السعودية كان يجب أن توضع خطط لتتحوّل السعودية بكاملها إلى منطقة جاذبة للاستثمارات، فهذا ما يؤدي إلى مساهمة النمو الاقتصادي في تحسين حياة مختلف فئات السعوديين.أقوال جاهزة شاركغردفكرة العودة إلى السعودية كانت دائماً حاضرة في ذهنه. لم يكن #جمال_خاشقجي سعيداً بأنه اختار "الغربة والسلامة" بعيداً عن وطنه. كان دائم التوق إلى العودة والحديث في شؤون بلاده ومستقبلها مع أصدقائه وحتى مع أركان السلطة شاركغردلم يكن #جمال_خاشقجي شخصاً بلا انحيازات إيديولوجية وسياسية، بعضها نابع من تجارب خاصة خاضها وبعضها نابع من مراقبته لما يدور حوله. ولكنه، في كل نقاش خضناه أثبت أن انحيازاته لا تعميه عن رؤية حسنات وسيئات في كل الأطراف كذلك، شكك في جدوى الإنفاق الضخم على ما سمّي بـ"أكبر مدينة ثقافية ورياضية وترفيهية من نوعها على مستوى العالم" (مشروع القدية)، وببساطة وسخرية قال لي: ماذا لو لم يأتِ الناس إليها بسبب ارتفاع درجات الحرارة، مذكراً بأن فكرة "المشاريع الضخمة" قديمة في السعودية ومنها مدينة الملك عبد الله الاقتصادية التي أُنفق عليها الكثير من المال ولكنّ مبانيها خالية اليوم. في لقائنا الثاني، وأتى بعد حملة الاعتقالات التي طالت ناشطين، أبدى جمال استغرابه من اعتقال ناشطات دعين إلى السماح للمرأة بقيادة السيارة، في وقت يُقرّ هذا الحق رسمياً. "كأنّ ابن سلمان لا يحتمل أن يشاركه أحد في نقاش الشؤون العامة"، قال. جمال والإخوان المسلمون حديث جمال عن الإخوان المسلمين كان يبدأ دائماً بنقد قاسٍ. برأيه، أضاعوا على العرب فرصة كبيرة لتحقيق الديمقراطية بسبب نزقهم السياسي. كان يخصّ بنقده تجربة إخوان مصر، لأن ثورة يناير وما تبعها كانت تحمل بذرة تجربة تغيير جذري وكان أثرها سيصل إلى كل الدول العربية لو لم يتم إجهاضها. "أثبتت التجربة أن قادة الإخوان لا يحسنون السياسة"، كتب، مثنياً على عبارة قالها له "صديق سياسي سوري": "لو كنت مفتياً يُسمع له لأفتيت بحرمانية ممارسة الإخوان للسياسة". برأيه، كان على إخوان مصر "الحفاظ على الديمقراطية هناك مهما كلفهم الأمر، حتى ولو كان الثمن ترك السلطة"، ولو أنهم حرصوا على ذلك لما كانت ضاعت "الثورة التاريخية التي كان يمكن أن تغيّر قدر العالم العربي كله وليس مصر فقط".أكمل القراءة في مقاربة نقدية لممارسات الإخوان السياسية، شبههم بـ"كتّاب مقالات وشعراء" تغلب حماستهم عقلانيتهم فيفشلون في التلاقي مع خصومهم في منتصف الطريق. لم يكن هذا النقد دعوة لإقصاء الإخوان عن المشهد العربي. بالعكس، كان يرى أنهم "انتصروا" ولكنهم يجهلون كيف يستثمرون انتصارهم بشكل لا يؤذي المسار الديمقراطي. برأيه، "بات ‘الإسلام السياسي’ اختياراً شعبياً لشريحة معتبرة من أي مجتمع مسلم، ولا يحول بينه وبين الحكم أو المشاركة فيه إلا توفر الديمقراطية"، وبالتالي على الإخوان أن يرفعوا شعار "الديمقراطية هي الحل" مثلما رفعوا سابقاً شعار "الإسلام هو الحل". وبرأيه، "لو ترك ‘شيوخ’ الإخوان ودعاتهم السياسة، سيكونون صانعي الملوك"، ولكنهم لا يتجرأون على التخلي عن تنظيمهم لأنه "صعب عليهم أن يتخلوا عن الاسم، فذاك مثل أن تقول لشركة كوكاكولا أن تتخلى عن اسمها التجاري الذي يساوي وحده مليارات". خلال 90 عاماً من نشاط الجماعة، نجح الإخوان برأي خاشقجي في "التصدي للتغريب الذي اكتسح العالم الإسلامي بعد سقوط الخلافة والدولة العثمانية"، وفي مقاومة الفكرة التي اعتبرت أن "المشكلة تكمن في مرجعية الإسلام السياسية"، وفي التصدي لنماذج عربية اقتدت بالمسار الذي اتبعه مصطفى كمال "أتاتورك" في تركيا، وأخرى استلهمت أفكار الشيوعية. لهذا، "انتصروا" حسبما اعتبر. كان جمال معجباً بتجربة حزب النهضة في تونس، وبالتحديد بمبادرته إلى التخفيف من سيطرته على مقاليد البلد في سبيل إنجاح التجربة الديمقراطية. من هنا نصح الإخوان بإعلان انتصارهم ثم التنحي عن السياسة "لتسهيل مهمة عودة مصر وبعض العالم العربي إلى ديمقراطية تعددية"، وهم بذلك لن يخرجوا من المشهد كما يخشون لأنه "سوف يكون هناك حزب سياسي ما تتجمع حوله أصوات تلك الشريحة الملتزمة بإعطاء صوتها للإسلاميين". جمال والسلطة الدينية كان جمال ينتقد "سماح الدولة للمؤسسة الدينية بفرض وصايتها الصارمة على المجتمع"، ما مكّنها من احتكار الفتوى وتحريم "قائمة لا تنتهي مما يفعله السعوديون يومياً"، وما مكّن هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من "فرض تلك الفتاوي بالقوة والتهديد على المجتمع". كان يطالب بـ"استعادة المجتمع لطبيعته وحريته في الاختيار"، لذلك رحّب "بالانفتاح الجاري اليوم في السعودية"، في مجالي الفن والترفيه، ولم يعارض أن يأتي هذا التغيير بـ"عملية قيصرية". كتب: "صحيح أن هذا الانفتاح لم يأتِ ‘تطوراً’ من داخل المجتمع وإنما بعملية قيصرية، ولكن لا يوجد حل آخر بعدما رفض علماء السعودية استيعاب التغيير والمواءمة بين الدين والعصرنة". هنا، تحضر مقارنة جمال بين المؤسسة الدينية السعودية وبين الإخوان المسلمين. برأيه، نجح "علماء الإخوان الذين لا تحبهم الدولة عندنا" بـ"المواءمة بين الإسلام والمعاصرة"، ومن إسهاماتهم في ذلك ما كتبه الشيخ يوسف القرضاوي في كتابيه "الحلال والحرام في الإسلام" و"فتاوى معاصرة"، وما كتبه حسن الترابي في كتابه "حوار الدين والفن". ولكن، رغم دعمه لـ"انفتاح" السلطة السعودية المستجد على الفن والترفيه، اعتبر أن الأهم حالياً هو "شفافية الإنفاق الجاري على صناعة الترفيه". برأيه "الدول تدعم عادةً الثقافة لا الترفيه". (ملاحظة: كل الأفكار التي استشهد بها الموضوع وقال إن جمال خاشقجي كتبها هي من مقالاته السبعة لرصيف22 ويمكن الاطلاع عليها أدناه) اقرأ أيضاًأيها الإخوان ما لكم وللسياسة؟محمد بن سلمان والإصلاح الذي سيغيّر السعودييندليل السعودي الحائر إلى عالم الفن والترفيهخواطر حول حرية العرب من أوسلو النرويجيةتحاشوا السجن ما استطعتم... عن الحرية والسجن والاكتئابهل العرب جاهزون للديمقراطية وهل النموذج الأمريكي سيئ؟نقص العمالة بين السعودية وأمريكا حسن عباس محرر القسم السياسي في رصيف22. كاتب وصحافي لبناني متخصص في الشؤون السياسية. قبل رصيف22، عمل وكتب في مؤسسات إعلامية لبنانية ودولية عدّة، وأجرى أبحاثاً تركّز على كيفية تحقيق الاستقرار في مجتمع متنوّع. يمكن التواصل معه عبر فيسبوك وتويتر. كلمات مفتاحية 25 يناير أردوغان الحريات الديمقراطية الربيع العربي تركيا جمال خاشقجي التعليقات
مشاركة :