«المافيا ليست ظاهرة لا تقهر. فهي واقع انساني ومثل كل واقعة انسانية فهي لديها بداية وسيكون لديها نهاية.» - فالكونييوم 23 مايو، 1992، انفجر 1000 كيلوغرام من متفجرات الـ(تي ان تي) تحت أوتوستراد كاباتشي، وهي مدينة قرب عاصمة باليرمو، صقلية. هذا الانفجار صعق وطناً بأكمله، وهز هذا الاغتيال أسساً كثيرة في ايطاليا لأنها قضت على شخصية حاربت فسادا كبيرا ولسنين طويلة. هذه الشخصية هو القاضي جيوفاني فالكوني، وزوجته القاضية فرانشيسكا مورفيلو، وثلاثة من حراسه الشخصيين، انتونيو مونتيناريو، روكو ديشيلو، وفيتو سكيفاني. قصتي مع فالكوني بدأت منذ سنتين فقط، فبعد سنتين من دراستي اللغة الإيطالية مع مدرسين خاصين، ومجموع دراسة هذه اللغة 4 سنين الى الآن فوجدت نفسي مهتمة في موضوع فالكوني ليس لأني مهتمة في المافيا، بل بالعكس، كلما قرأت عنهم واساليبهم وتأثيرهم في الماضي واليوم، تعبت نفسيا من هذا الكم من العنف. ولكن ضغطت على نفسي اكثر كي احقق هدفي: وهو دراسة فالكوني وأساليبه وأيضا أخلاقياته. فعندما رأيت مقابلاته، وفي كثير من الأحيان شاهدتها باللغة الإيطالية ولم أفهم شيئا لأنها من غير ترجمة، اهتممت اكثر. لم أصدق كيف انسان بهذا الكم من الهدوء والاستسلام، كان رائدا في محاربة مجرمين وقتلى لا يفهمون إلا لغة العنف. وأدركت في النهاية أن فالكوني رجل قانون، وهو حاصل على الدكتوراه في هذا المجال، وبما انه خبير، فهدوءه واجب. واكتشفت في النهاية ان هدوءه، بل ربما، استسلامه للموت في اي لحظة، هو الذي كان مخيفا للمافيا. كيف ستقضي على شخص ليس لديه ما يخسره؟ ترعرع فالكوني في ضاحية لا كالسا وهي تقع في قلب باليرمو، وكان يلعب مع اولاد اصبحوا زعماء مافيا مشهورين لاحقا. هذا يعني بأن ظاهرة المافيا كانت جزءا من حياته منذ الطفوله ولا سيما بأن تاريخ المافيا في جزيرة صقلية طويل جدا ويمتد للقرن التاسع عشر. فقد اعتاد مواطنو باليرمو على رؤية جثث ملقاة في الشوارع بسبب المافيا، او حروب بين اعضاء المافيا، وفي حالات كثيرة، وللأسف الشديد، المافيا كانت تأخذ مكان الحكومة وتساعد الكثير من الأفراد وايضا تتوسط لحل مشاكل بين الناس.والد فالكوني، ارتورو فالكوني، اراد لابنه ان يصبح إما طبيبا أو قسيسا. ولكن اختار فالكوني القانون وتخرج في جامعة باليرمو عام 1961 ليصبح قاضيا عام 1964. ولكن لم يكن فالكوني مجرد قاضٍ، ولكنه كان يعتبر خطرا عظيما ليس فقط للمافيا في صقلية (كوسا نوسترا)، ولكنه ايضا فضح العلاقة بين بعض من افراد الحكومة ورؤوس المافيا. ولذلك كان الثمن حياته، مع العلم بأنه كان يعلم ذلك جيدا. فغالبا الشجاع وراعي الحق مصدر تنمر وتحرش لمن اعتادوا ان يستعبدوا الكثير. وفالكوني لم يكتفِ بقول «لا» بأعلى صوت، ولكنه قضى عليهم ليس فقط في موطنه ايطاليا، بل ساهم في القضاء عليهم وعلى شبكتهم ما ادى الى محاكمتهم حتى في الولايات المتحدة وتسمى هذه الشبكة بشبكة البيتزا التي تضمنت تجارة الهيرويين والكوكايين بين (كوسا نوسترا) في صقلية وافرعها في أميركا. طبعا سميت بشبكة البيتزا لأن المافيات هناك كانت تقدم مطاعم البيتزا كتمويه وفي الواقع كانت هذه «المطاعم» خزانات واسعة للمخدرات. فالكوني عاش معظم حياته بطريقة ليست بسهلة فقد كان تحت الحراسة الشديدة وكان مكتبه في سرداب محصن تحت الأرض. جميع تحركاته كانت مخططة ومدروسة مسبقا من حراسه. وحياته كانت دائما في حالة خطر لدرجة انه اتفق ومنذ البداية مع زوجته بعدم الإنجاب لأنه كان يعلم نهايته ولم يعتقد بأن العالم بحاجة الى المزيد من اليتامى. حتى حراسه الشخصيون صرحوا للإعلام بأنهم مؤمنون بقضيته جدا الى الدرجة التي جعلتهم يتأهبون للموت وبأي لحظة معه. ولكن لم كل هذه التضحيات؟ ومن اجل من؟ وهل فعلا كان كل هذا يستحق حياته وجهده؟ هل يمكن لفرد واحد محاربة هذا الكم من العقليات المشوشة والتي ترسخ فيها السمع والطاعة للمافيا فقط لانهم يهددون بالقتل والسلاح؟فترة الثمانينات في ايطاليا وخصيصا في صقلية كانت تعتبر فترة «الجثث الممتازة» وهذه الجثث تنتمي لشخصيات سياسية وقانونية وعسكرية مهمة ساهمت في انهاء الفساد ولا سيما في الوقوف ضد المافيا. عام 1983، تم اغتيال القاضي روكو شينيشي وهو رئيس فالكوني في العمل. وعام 1982 تم اغتيال الجنرال الإيطالي كارلو البيرتو دالا كييسا، وفي السنة ذاتها ايضا اغتيل القائد الشيوعي بيو لا توري والذي اسس قانونا مهما في الدستور الإيطالي والذي يجرم المافيا ويحق للدولة بأن تستولي على ممتلكات واراضي المافيا. ايضا ضحية مهمة للمافيا كان بييرسانتي ماتاريلا، وهو شقيق رئيس ايطاليا الحالي سيرجيو ماتاريلا. المافيا بدأت حملة ارهابية لتخيف بها الدولة الإيطالية ولتحرص على رضوخ الحكومة لرغباتها. ولكن هنا اتى دور فالكوني الحقيقي. فبعد اغتيال صديقه ورئيسه وزميله شينيشي، بدأ فالكوني حربا حقيقية ليتصدى للمافيا التي اعتادت ان تنال رغباتها عبر التخويف والعنف والقتل والانتقام وسفك الدماء. كيف؟ نلتقي قريبا مع فالكوني في مقالة اخرى... وفيها سنتعمق اكثر وبدقة كيف سابق الوقت كي يحقق اهدافه لمحاربة (كوسا نوسترا).* باحثة آداب ومؤرخة في حقبة التاريخ القديم. أطروحتها كانت أهمية بدو سيناء في انتصارات الإمبراطوريات الأخمينية والآشورية في حروبهم. وتستعد لإصدار كتابها الأول «شذرات وله: شخصيات تاريخية ورعيها للفن قريبا».historylovin@
مشاركة :