لقد وقع الطالب المبتعث في إشكالية امتداد التخصص التي تشترطها الجامعات لتعيين المحاضرين بعد الماجستير أو الدكتوراه. وفي الواقع أن هذا الشرط أُطلق على مصراعيه غير مراع لتداخل العلوم المختلفة وتفريعاتها، فالتخصصات ليست صناديق مغلقة، فقد يمتد فرع علم من العلوم ويتداخل مع علوم أخرى؛ حيث تظهر تطبيقات جديدة؛ وهذا هو أساس البحوث العلمية وخصوصاً التطبيقية منها حيث يكون الغرض من البحث هو الاستفادة من المنتج النظري، وهو ما يحتاج إلى إلمام أوسع بعلوم مختلفة. وهذه المقالة تلقي الضوء على مفهوم التخصصات المتداخلة، وإشكالية شرط امتداد التخصص. لكي نفهم إشكالية امتداد التخصص و«التخصصات المتداخلة»، يجب أن ننظر نظرة موجزة في تاريخ تطور العلوم والبحث العلمي وتطور طرق تصنيفها، فمنذ فجر التاريخ كانت العلوم تُأخذ من باب واحد، ومنابعها دائماً كانت مشتركة، وكثير من العلماء في عصر ازدهار الإسلام وكذلك في عصر الثورة العلمية في أوروبا كانوا يشتغلون بعلوم مختلفة، ولكنهم برزوا في مجال معين بسبب الأثر الذي تركوه في ذلك المجال. ابن خلدون على سبيل المثال لم يتم تصنيفه في عصره، وتم الاختلاف على تصنيفه بين الباحثين في الأجيال اللاحقة، بل حتى بعد ظهور قواعد البحث العلمي وطرق التصنيف في الجامعات، لم يكن امتداد التخصص يمثل إشكالية لديهم «مع مراعاة تداخل العلوم»، ولهذا أمثلة كثيرة، فالعالم الفيزيائي الكبير طمسون «وهو مكتشف الإلكترون» الذي تتلمذ على يده الكثير من العلماء الفيزيائيين مثل بور ورذرفورد، هو بالأساس خريج كلية الهندسة، وأكمل الدكتوراه في الفيزياء النظرية، وكذلك العالم الكبير نعوم تشومسكي في علم اللسانيات كان تخصصه الدراسي في البداية هو الرياضيات. من المعلوم أن هذه الحواجز والتصنيفات للعلوم تم وضع ترتيباتها في المئة سنة الأخيرة، حيث بدأت الثورة العلمية(*) الثانية وانفتق منها تطبيقات جمة للعلوم، وظهرت الحاجة للتصنيف الأكثر دقة لهذه العلوم، ولكنه في نفس الوقت لم يقف في وجه الامتداد والتداخل العلمي بين التخصصات، وهذا هو الوضع القائم في الجامعات الغربية من أيام طمسون إلى يومنا هذا. فكثير من الطلبة الآن يتخصصون في تخصصات متداخلة ويشرف عليهم أكثر من مشرف على رسائلهم البحثية، بحيث يكون المشرفون من أقسام مختلفة، فبعض طلاب الدكتوراه يكون لديه أربعة مشرفين على رسالة الدكتوراة، وكل مشرف من قسم «مختلف» وغالباً ما يشترط أن يكون لدى الباحث تخصص أساسي، كالفيزياء أو الكيمياء لكي يقوم ببحث في الأحياء الدقيقة على مستوى التركيب الجزيئي للخلايا وقوى الطاقة المتواجدة في مركباته. وكثير من مراكز الأبحاث الآن تقوم بمثل هذه الأبحاث وتكون رسالة الدكتوراة غالباً بمسمى مختلف تبعاً لذلك المركز، وما ذكر هنا مجرد مثال. هذه الأبحاث ذات حيوية كبيرة، والطرق المنهجية المستخدمة فيها متعددة بين تلك التخصصات، فيتخرج الطالب وهو في منطقة وصل بين تخصصه الأساسي في البكالوريوس والماجستير وتخصصات أخرى، وقد تعلم من تلك الدراسة طرق ملء هذه الفجوات بين التخصصات ذات المنهجية العلمية المختلفة، وهو شيء مطبق في جميع الجامعات الغربية. والجدير بالذكر أن هذه المهارات البحثية المتعددة التي اكتسبها الباحث قابلة للتطبيق بين مجالات أوسع إذ إن الباحث تعلم كيفية الدخول بطرق علمية منهجية بين تخصص وآخر. لا أستطيع أن أفهم سبب اشتراط امتداد التخصص على طلبة الدراسات العليا، حيث إن هذا الشرط يقيد القسم ومجلس الكلية ويمنعهما من الاستفادة من خريجي برنامج خادم الحرمين الشريفين بصورة أكثر فاعلية، ففيه عدم مراعاة لتداخل العلوم والحاجة الحيوية التطبيقية لمثل هذه المهارات البحثية، وخصوصاً أن بعض هذه الأبحاث كما ذكرت تكون في مراكز بحثية تحت مسمى مختلف عن التخصص الأساسي. وما سبق ذكره من أمثلة في العلوم التطبيقية ينسحب على العلوم الإنسانية، فهناك الكثير من الفروع فيها متداخلة، ويصدق فيها القول: «العلم هو العلم من أي طريقٍ أتيتهُ». (*) الثورة العلمية مصطلح يطلق على بداية العلم الحديث في القرن السابع عشر الميلادي، وربما كان مطلع القرن العشرين هو بداية الثورة العلمية الثانية بسبب ظهور فيزياء الكوانتم والنسبية بدلاً من الفيزياء الكلاسيكية.
مشاركة :