محمد أمين | يبدو ان المقالة مجهولة الكاتب التي نشرتها صحيفة نيويورك تايمز مؤخراً، كانت بمنزلة حيلة من قبل شخص يريد أن ينأى بنفسه عن ادارة ترامب التي يعتبرها مشلولة، بينما يستفيد من أية مصداقية أو شعبية لا تزال متبقية لدى الرئاسة. لم تُضف المقالة كثيراً، إلى فهم الرأي العام للإدارة – وهو فهمٌ تم تشكيله بالفعل من خلال تسريبات واشاعات لا نهاية لها من داخل البيت الأبيض. وقبل يوم واحد فقط من نشر مقالة نيويورك تايمز، نُشرت مقتطفات من كتاب بوب وودوارد الجديد بعنوان «الخوف»، مما أضاف الكثير إلى الصورة المتراكمة باستمرار، عن ادارة تسودها الفوضى والكذب والخوف والنزاعات والازدراء للرئيس حتى في صفوف كبار موظفيه. ولكن في حين أن مضمون المقالة مجهولة الكاتب ليس مهماً، من زاوية تقديم معلومات جديدة، لكن حقيقة نشرها يعتبر تطوراً مهماً، بالتأكيد. دولة لا يحكمها الرئيس! يؤكد كاتب المقالة أن الدولة، إلى حد ما، لا يحكمها الرئيس وإنما مجموعة من الأشخاص الذين أخذوا على عاتقهم تغيير أو تعديل أو حتى إعاقة اعمال أو – على حد وصف المؤلف المجهول – «أسوأ رغبات» الرئيس! ويكشف وودوارد، على سبيل المثال، كيف قام المستشار الاقتصادي السابق غاري كوهن بسرقة الوثائق من مكتب ترامب، لئلا يتصرف فيها بشكل متهور. لكن وجود هذه الحالة الموصوفة كتابة، يؤكد على أن جهة أو جهات غير منتخبة، تتجاوز وتُضعف الرئيس المنتخب. وفي حين قد يكون هذا هو خلاص البلد على المدى القصير، إلا أنه يشير بوضوح إلى موت أكثر المثل العليا والأعراف الدستورية أهمية في الولايات المتحدة. فالشخص المجهول أو الأشخاص المجهولون لا يستطيعون حكم الشعب، لأن الناس يجب ان يعرفوا من يحكمهم. خيار سيئ ومع ذلك، فإن صحيفة نيويورك تايمز تعرف من هو هذا الشخص، وهو الأمر الذي يغير أيضًا الموقع الذي تحتله هذه الصحيفة في الديموقراطية الأميركية. قسم المقالات منفصل عن العملية الإخبارية، ولكن من اجل حماية هوية كاتب المقالة، فقد فشلت الصحيفة في مهمة تحميل المسؤولية للسلطة. ومن النادر جدا نشر مقالة لكاتب مجهول الهوية. ولقد واجه المحررون في الصحيفة خيارًا صعبًا. ومن الواضح أنهم خلصوا إلى أن المعلومات الواردة في هذه المقالة مهمة بما يكفي لتجاهل الممارسات والمبادئ الصحافية المعتادة. وبالرغم من عدم التشكيك في نوايا المحررين الجادة، فان ما اقدمت عليه الصحيفة كان خيارا سيئاً. إذ كان يتعين على الصحيفة التوقف عن محاولة العثور على الحل الصحيح والبحث عن مسار عمل يتجنب التواطؤ. لقد اصبحت نيويورك تايمز – بنشر مقالة مهمة دون اسم الكاتب – متواطئة مع فساد الإدارة، كما يرى محللون. وترى ماشا غيسين في مقالة لها في مجلة «نيويوركر» إن الطريقة التي يتم بها إفساد وسائل الإعلام، بما فيها صحيفة مثل نيويورك تايمز، التي لا تزال تنشر التحقيقيات الصحافية الرائعة طوال هذه الحقبة، هي واحدة من أسوأ تأثيرات ادارة ترامب، والتي ستدوم طويلاً على الارجح. ويتم افساد وسائل الإعلام في كل مرة تروّج لتغريدة غير منطقية أو كاذبة أو تنضح بالكراهية يطلقها ترامب (على الرغم من أن عدم التعامل مع هذه التغريدات ليس خيارًا). إنه يتم افساد الإعلام في كل مرة يتصرف الصحافيون فيها بأدب، بينما يكذب عليهم الرئيس أو السكرتير الصحافي للبيت الابيض أو غيرهم من مسؤولي الإدارة. إنه يتم افسادهم في كل مرة يُشار فيها إلى كذبة بأي وصف غير كونها كذبة. ويتم إفساد الإعلام في كل مرة يسمح فيها الصحافيون للإدارة بتأطير قضية، كأن ينخرط الإعلاميون في نقاش حول ما إذا كان فصل الأطفال عن آبائهم على الحدود هو رادع فعال ضد الهجرة غير الشرعية. ويتم إفساد الإعلام في كل مرة يستخدم الإعلاميون فيها عبارة «الهجرة غير الشرعية». غريب الأطوار لقد كانت المقالة المجهولة الكاتب حدثًا فاسدًا، ليس فقط لأن صحيفة نيويورك تايمز أصبحت نفسها حافظة لسرٍ لا ينبغي لها الاحتفاظ به، ولكن أيضًا لأنها كانت مثالًا بارزاً لإفساد ترامب للغة السياسية، حسب وصف إعلاميون. فقد استهلت المقالة بعنوان رئيسي: «أنا جزء من المقاومة داخل إدارة ترامب». وفي الحقيقة أن المؤلف المجهول ينأى بنفسه عما يسميه «المقاومة الشعبية» لليسار. ولكن العناوين عادة ما تكون مكتوبة من قبل المحررين، وهذا يسيء لأحد المصطلحات التي تبناها الناشطون الذين يعارضون الإدارة نفسها، وليس فقط «رئيسها غريب الأطوار». وبعد العنوان، يواصل المؤلف إساءة استخدام اللغة حين يتحدث عن «الأبطال المجهولين» للإدارة الذين يعملون على ابعاد إداراتهم عن نزوات الرئيس ونوبات غضبه وعن عيونه – على ما يبدو – ويضمنون أن السياسة الفعلية هي في بعض الأحيان عكس ما يصفه ترامب في خطاباته العامة. المشكلة هنا هي في مصطلح «الأبطال المجهولون» الذي يعود عادة على اشخاص يعملون بعيداً عن الأعين، وليس على اشخاص يتولون مناصب عامة يستهدفون اخفاء فحوى أعمالهم. فغياب الشفافية في الحكم يمثل مشروع ازمة دستورية، وليس عملاً بطولياً. وإضافة الى ذلك، لا بد من ملاحظة أن كاتب المقالة يغني على ليلاه، حتى وان كان مجهول الهوية. وبعد بضع فقرات، يقدم الكاتب بيانًا واضحًا ولافتًا: «القلق الأكبر ليس مما فعله ترامب في الرئاسة، بل ما سمح لنا به – كأمة – أن يفعله بنا. لقد غرقنا معه وسمحنا له بتجريد خطابنا من الأخلاق». هذا صحيح ولا جدال فيه، لكن، يبدو أن هذه المقالة، كذبة أيضا. فهناك فارق حقيقي بين أولئك الذين قاوموا بالفعل، أو على الأقل لم يساعدوا، هذه الإدارة، وأولئك الذين يعملون لها. بل ان الادعاء من قبل شخص مجهول الهوية، بأن هناك من استولى على بعض صلاحيات الرئاسة، فصل المؤلف نفسه عن الشعب، ما جعل عبارة «نحن كأمة» زائفة على نحو مضاعف. مواطنون يرتقون فوق السياسة يقول كاتب المقال المجهول في نيويورك تايمز في الفقرة الأخيرة، ان «هناك مواطنين يرتقون فوق السياسة كل يوم، ويبذلون جهودا مخلصة لخدمة الشعب الاميركي». هذه المشاعر المألوفة تبدو معزولة تمامًا عن بقية المقالة، ولكنها تخدم غرضًا ما. فالكاتب يزعم وجود أرضية مشتركة مع الناس، ربما الأشخاص الذين يقفون وراء المقاومة ذاتها التي وصفها في اقتباسات مخيفة في مقدمة المقالة. وهو –بفعله هذا- يكذب مرتين. فمن يعمل مع الإدارة الحزبية الأكثر عدوانية في تاريخ الولايات المتحدة، لا يمكن ان تجمعه ارضية مشتركة مع الشعب، وإدعاؤه بوجود قضية مشتركة مع الحزبين هو كذبة. إشعال جبهة ثانية الكذبة الأخرى التي رصدها متابعون، هي الحديث في المقال المجهول الكاتب عن ازدواجية «الأرض المشتركة» والسياسة. فالسياسة ليست عكس الارضية المشتركة، بل هي عملية البحث عن أرضية مشتركة وجعلها قابلة للحياة. وترامب يشن الحرب على النخبة السياسية منذ أكثر من عامين. وما فعله هذا العضو المجهول في إدارته والذي يتفاخر بعضويته في حكومة سرية، إنما هو فتح لجبهة ثانية في هذه الحرب.
مشاركة :