تنتظم الأفكار الكبرى «التأسيسية» في حركة سير التاريخ الإنساني مثل عربات قطار يتوالى مرورها على محطة «التأثير والفعالية»، بحيث تبلغ كل فكرة كبرى ذروة تحققها في عصر ما دون غيره، فتستحيل مرجعاً تقاس به وإليه حركة الفاعلين في عالم هذا الزمان، قبل أن ترثها فكرة كبرى أخرى أقدر منها على حمل أعباء عصر جديد ارتقت فيه بنى التاريخ، وبلغت درجة أكبر من التعقيد، وهكذا. ومن ثم كانت الأفكار القادرة على صياغة العالم هي دائماً الأكثر حداثة، وارتباطاً بعصرها، وقدرة على تلبية متطلباته. ففي مرحلة تاريخية ما كان الدور الرئيسي لأفكار خرافية مثل السحر والحسد، وفي أخرى تالية ارتبط هذا الدور بأفكار من قبيل الأعراق النبيلة والبطولة الشخصية، وفي مرحلة أكثر نضجاً تكاد تشغل العصر المحوري، احتكر الدين بسردياته الوجودية ومعارفه النقلية هذا الدور، فيما لعبت الأفكار الأخرى أدواراً هامشية. أما الحقبة الحديثة فشهدت بزوغ أفكار جديدة محفزة للتاريخ، سواء كانت فلسفية كالحرية والنزعة الإنسانية، أو سياسية من قبيل القومية والعلمانية والديموقراطية، أو علمية حيث صارت التكنولوجيا، كتطبيق للعلم الحديث، رافعة الحياة المعاصرة، بينما تحركت الأفكار المحفزة الأخرى إلى ظل التاريخ. وهكذا نجد أن الأفكار الكبرى جميعها قد لعبت دورها المحفز في التاريخ، ولكن بأقدار مختلفة في مراحل مختلفة، عبر تتابع محكوم ببنية تاريخية متطورة تنزع عموماً إلى الارتقاء والتعقيد. ومن ثم يثور تساؤل حول مستقبل الفكرة المحفزة حال فقدت قدرتها على التحكم بعالمها، ذلك أن فشلها في تحقيق السيادة لا يعنى موتها، بل فقط انزياحها من بؤرة التاريخ، ما يدفع بها غالباً إلى أحد اتجاهين: الاتجاه الأول «تاريخي»، حيث الإسهام الجزئي في حركة العصر إذا ما انصاعت الفكرة لمنطق العصر، فأحسنت التكيف معه، وأبدت تواضعاً إزاء الفكرة المحفزة الجديدة، وهو الأمر الذي يساعد على تكامل وانسجام وسلاسة حركة التاريخ، كما يدعم الوحدة العميقة في بنية الحضارة الإنسانية، فسيادة فكرة بعينها، وهي بالطبع الأكثر حداثة في عصرها، إنما يفضى إلى تعميم ريادة الحضارة المنتجة لها، ومن ثم كانت هناك دوماً حضارة سائدة، تتعدد داخلها الثقافات، وتتوزع بين ثقافات سائدة وأخرى متنحية، الفارق، بينها هو نفسه الفارق بين الرائد والتابع، بين المؤثر والمتأثر، بين الصانع والمستخدم. أما الاتجاه الثاني فـ «تاريخاني»، حيث تسعى الفكرة التأسيسية المتقادمة إلى تحدى منطق العصر السائد بإعاقة الفكرة التأسيسية الجديدة، وقطع طريق سيرها الآمن. فعلى الرغم من أهمية الفكرة المتقادمة في ذاتها، فإن محاولتها تصدر المشهد في غير أوانها غالباً ما تولد طاقة سلبية ضد حركة عقارب الساعة، تعمل على إعاقة الفكرة الجديدة الأكثر قدرة وحداثة عن ممارسة دورها. بالطبع ثمة فارق أساسي بين الدين والأفكار الوضعية، فالدين ظاهرة إنسانية كبرى تتوزع على مستويين: أولى يتمثل في خبرة الاتصال العاطفي مع المبدأ الإلهي/ القدسي، حيث لا يمكن الحديث بسهولة عن مفهوم التاريخية، فالخبرة الروحية خالدة، بقدر ما هي متسامية، تظل قادرة على إلهام معتنقي تلك العقيدة. وثانوي يتم فيه تجسيد هذه الخبرة وتنظيمها، ما يجعل منها معرفة وتقاليد، تدور حول نصوص ونُقول، يتم استنطاقها لتبثنا أفكاراً تقارب الحقيقة أو تلهمنا قواعد تقارب القانون. وعلى هذا المستوى تكون «التاريخية» هي قدر الفكر الديتي. في هذا السياق كان ممكناً وربما مطلوباً- تحت ضغط الحداثة- أن ينزاح الدين من المجال العام السياسي إلى المجال الخاص الفردى، متنازلاً عن طموحه إلى تنظيم المجتمعات وبناء المؤسسات، والوصاية على العلوم والمكتشفات. وفي المقابل لم يكن محتماً ولا حتى مطلوباً أن يفقد الدين كل قيمته، أو يُعلن عن موته بقوة سيف العقلانية الراديكالية. فالنزعات المادية الكامنة في تربة العالم الحديث/ العقلاني/ العلماني، وما يصاحبها من نزعات شكيه وأحياناً عدمية، أصابت الإنسان بتوتر نفسي لا محدود، تغذى على الإيقاع السريع لمعدلات التغير، حيث تختلط الاتجاهات، وتزوغ الأبصار، ويشعر الناس بالتيه والضياع وصولاً إلى شعور عميق بالاغتراب، يعود ليمنح الدين سيفاً جديداً يحارب به العالم الحديث، كونه المصدر الأساسي لليقين الروحي الناجم عن قوة الاتصال العاطفي مع المبدأ القدسي، في عالم تحيطه الشكوك. تدفع مشاعر الاغتراب إلى تركيز الإنسان على هويته الفردية، ما يقوده في الأغلب إلى الالتصاق بمكوناتها الأولية وخاصة المعتقدات الدينية، ليس فقط ليملأ الفراغ الوجداني الشاسع الذي خلفه ذبول المجتمع الكلاسيكي بعلاقاته الحميمة، بل وأيضاً بحثاً عن جذور وملامح للتمايز تحت ضغوط عمليات التنميط والقولبة والعلاقات الكمية والتماثلات الشكلية التي يفرزها مركز رأسمالي صناعي، صار بالتدريج منظماً لمجمل النشاط الإنساني في الفضاء العالمي. ومن ثم انفجر الإحياء الديني في كل مكان تقريباً، ليس ذلك الإحياء الروحاني الذي كان سلفاً، ولا الإيمان التقليدي الذي ساد زمنا، بل الإحياء العنيف الناجم عن شعور بعض المتدينين ذوى القدرة المحدودة على التكيف بالهزيمة والرغبة في الثأر، والطموح إلى استعادة أرض مغتصبة كانت للدين قبل أن يُطرد منها، ولو اضطروا إلى حرقها. ولعل ذلك يفسر، ولو جزئياً، جاذبية تنظيم مثل داعش- كأبرز نماذج للإرهاب المعولم- لبعض الشباب في المجتمعات الأوروبية، ليس فقط المهاجرين المنحدرين من أصول عربية/ أفريقية/ آسيوية، بل وأيضاً أولئك الذين تتجذر أصولهم في تلك المجتمعات، ممن ضعفت قدرتهم على التكيف مع المجتمع ما بعد الحديث، فوقعوا أسرى لأزمة معنى جعلت حياتهم بلا مغزى، ودفعتهم للبحث عن الخلاص منها ولو في شكل مأساوي. وهكذا يتبين لنا كيف كان الدين في أكثر إلهاماته راديكالية، وأكثر تجلياته مأساوية، قابعاً على الطريق، هازئا بالمصير الذي رسمته له الحداثة في صيغتها المادية المتطرفة، مطالباً بحقه في الوجود، كاشفاً عن قدرته على التحدي، وهي قدرة يبدو أنها ستظل باقية دوما، في مواجهة شتى المحاولات القسرية لنفي الروحانية المتسامية المتولدة عن مركزية الحضور الإلهي في التاريخ الإنساني. ومن ثم نجد أنفسنا أمام مفارقة تاريخية كبرى، وهي أن القرن الحادي والعشرين المفعم بأحلام التقدم، والمتوثب إلى بلوغ ذرى القمم التي قاربها سابقه، إنما يلوى خطاه إلى بعض طرق ومداخل تقود إلى ما يسبق القرن العشرين، وليس إلى ما يليه، حيث الدين، سواء بحضوره الطقوسي أو احتجاجيته الثورية، حجر عثرة على طريق العقلانية المفرطة، بعد أن كان مفكرو الحداثة، منتصف القرن التاسع عشر، تصوروا أنهم تجاوزوه إلى الأبد. ومن ثم تنبع النزعات الأصولية في الديانات الثلاث السماوية/ الإبراهيمية، حيث المشتركات بينها لا يمكن إنكارها، كونها نبتت من الجذر الاعتقادي نفسه، وترنو إلى المطلق ذاته، وإن كانت وجوه التغاير فيما بينها، بحكم السياقات التاريخية والثقافية، لا يمكن إخفاؤها. الملمح المشترك بينها، ولعله الأكثر أساسية، يتمثل في الفهم الانتقائي لهذا الدين أو ذاك، فالعقل الأصولي غالباً ما يختزل الدين في تفسير أحادي، على رغم تاريخه الطويل، الذي ينطوى على تجارب متعددة، ويستبطن تطبيقات قد تكون متناقضة، لكل منها سياق ودلالة، تسعى القراءة الأصولية إلى محو كليهما ليسهل لها إعادة تفسير دينها في الاتجاه الذي تريد. فالأصوليون جميعاً يدعون قدرتهم (وحدهم) على استعادة الجوهر المؤسس لمعتقداتهم، وإعادة تجسيد النموذج الأصلي للحياة الذي انطلق منه، ومن ثم بلوغ الغاية التي استهدفها، وهو الأصل الذي يتوجب دوما العودة إليه كلما أراد أتباعه استعادة انطلاقتهم الفتية نحو غايتهم الرئيسية. وهكذا تبدو القراءة الأصولية للنصوص الدينية «مستقبلية» في جوهرها، وإن بدت ماضوية في ظاهرها، فالأصولي عينه على المستقبل، أما الماضي فهو مجرد وسيلة، مخزن لأفكار ومقولات جاهزة يستطيع الاستعارة من بينها، ومخبأ لسيوف ورماح يستطيع السحب منها ليرمى بها مخالفيه في: الاعتقاد، الطائفة، المذهب. هذا المبدأ الانتقائي نجده حاضراً لدى الأصوليين اليهود في تأكيدهم لتفوقهم المطلق على الأغيار، الذي يستعينون لإثباته بما ورد في سفر التكوين من عهد منحه الرب «إلوهيم لإبراهيم» و «يهوه ليعقوب» بالخيرية بين الأمم، وبملكية الأرض المقدسة. وفي استخلاص نتائجها بما ورد في سفر التثنية من آيات تدعو إلى إبادة هؤلاء الأغيار المفتقرين إلى أي فضيلة. وفي الوقت نفسه يتجاهلون ما ورد في الإصحاح الثامن من السفر نفسه، ناهيك عن كثير من أسفار الأنبياء، خصوصاً إرمياء وإشعياء، من أن الله لم يختر العبرانيين إلى الأبد، بل اختارهم كما اختار الكنعانيين من قبلهم، عندما كانوا أحبارا يخدمون الله بوازع ديني، ولكنه تخلى عنهم بسبب حبهم للشهوات، حيث أن «الرب صالح للجميع ومراحمه على كل صنائعه» (مز، 32: 15). ونجده حاضراً لدى الأصوليين المسيحيين في الاقتباس من سفر الرؤيا وما يبثه من عقيدة ألفية تقول إن عودة اليهود إلى أرض الميعاد، وبناء الهيكل الثالث، يمثل بشارة لعودة المسيح، وبداية المعركة الفاصلة (هرمجدون) مع الشر، ما يصوغ مسيحية صهيونية تؤيد العنف الإسرائيلي أكثر كثيراً من اليهود غير الصهاينة. وفي المقابل، نادراً ما يشيرون إلى موعظة الجبل، حيث يطلب المسيح من أتباعه أن يحبوا أعداءهم ويباركوا لاعنيهم... أن يديروا الخد الأيسر لمن يضربهم على الخد الأيمن: «سمعتم أنه قيل: تحب قريبك وتبغض عدوك. وأما أنا فأقول لكم: أحبوا أعداءكم. باركوا لاعنيكم. أحسنوا إلى مبغضيكم. وصلَّوا لأجل الذين يسيئون إليكم ويطردونكم» (متى، 5: 43- 44). كما نجده لدى الأصوليين المسلمين الذين يُهملون جل القيم الإنسانية الباهرة المنبثة في النص القرآني، والتي صنعت الحضارة الإسلامية الشاهقة والدول الإمبراطورية الفتية، وعلى رأسها الأخوة والتسامح واحترام معتقدات الآخرين. وفي المقابل يركزون على آيات الحاكمية التي يفسرونها على نحو يمنحهم حق تكفير الناس، كمقدمة لإباحة دمائهم وأعراضهم وأموالهم. أو في آيات الجهاد التي كانت قد صاغت مفهوماً حضارياً له يعكس عالمية الإسلام، وإنسانية الوحي كبلاغ للعالمين، فإذ بأمراء الحرب المعاصرين يختزلونه في العنف المسلح، وينزعون عنه كل أخلاقية متمدينة، ليصير إرهاباً وحشياً، ينتهكون فيه كل القواعد الشرعية والقيم المتدينة.
مشاركة :