“لعبة المصالح” دائماً ما تحكم التصرفات التركية، ويبدو أن توقيت إطلاق سراح القس الأمريكي ليس ببعيد عن مساومات بين الجانب التركي والأمريكي، فقد تحركت أنقرة للاستفادة من حاجة واشنطن لمعلومات بشأن اختفاء الصحفي السعودي “جمال خاشقجي” وأطلقت سراح القس؛ في مساع لاسترضاء واشنطن وفتح قناة للمصالحة مع ترامب الذي أبدى تشدداً كبيراً أمام التصعيد الخطابي من نظيره التركي رجب طيب أردوغان. كانت تركيا قد أطلقت أمس سراح القس الأمريكي أندرو برانسون الذي أشعل احتجازه في أنقرة ووضعه تحت الإقامة الجبرية أزمة دبلوماسية قوية بين البلدين. وقضت المحكمة في منطقة إزمير بالسجن 3 أعوام على برانسون بعد إدانته بما أسموه دعم “منظمات إرهابية” في إشارة إلى حزب العمال الكردستاني وأعوان الداعية فتح الله جولن الذي تتهمه تركيا بتدبير انقلاب 2016، لكنها أفرجت عنه بحجة انقضاء مدة محكوميته ولسلوكه خلال المحاكمة وتجاوبت المحكمة مع طلب النيابة رفع الإقامة الجبرية عن القس والسماح له بمغادرة البلاد. وكان ترامب قد أعرب عن أمله في عودة برانسون سريعاً إلى واشنطن دون أدنى مشاكل فعقب نشره لتغريدة قال فيها إنه “بذل جهداً كبيراً” من أجل إطلاق سراحه، كتب ترامب على تويتر”أفكاري وصلواتي مع القس برانسون، ونأمل بأن نراه مجدداً سريعاً ومن دون مشاكل في المنزل”. قال مراقبون للأوساط التركية إن إطلاق سراح برانسون خطوة سياسية تم تطويع القضاء لتحقيقها، لا سيما وأن تهم دعم الإرهاب في تركيا تعقبها أحكام قاسية لا تهاون فيها خاصة إذا ارتبطت بشكل من الإشكال للمنتسبين أو المقربين من الداعية فتح الله جولن كتلك التهم التي وجهت لبرانسون. ويطيح إطلاق سراح القس برانسون بشعارات أردوغان أن تركيا “دولة قانون” وأن القضاء فيها محايد ومستقل، فأردوغان نجح في تطويع القضاء لخدمة أجنداته السياسية وفق رغباته واستعداده لعقد أي صفقة للفكاك من أزماته. وكانت الرئاسة التركية قد أصدرت بياناً في محاولة لحفظ ماء الوجه قالت فيه إن “البلاد ومحاكمها لا تتلقى تعليمات من أي جهاز أو سلطة أو مرجع أو شخص”. يذكر أن مسؤولين أمريكيون كانوا قد كشفوا لشبكة “أن بي سي نيوز” أن هناك اتفاقاً حقيقياً قد أبرم مؤخراً بين ترامب وأردوغان يفترض أن يطلق سراح برانسون وإسقاط بعض التهم عنه. وألمحت مصادر سياسية بأن هناك صفقة بالفعل تضمنت التزاماً من جانب واشنطن بتخفيف الضغط الاقتصادي على تركيا، وأنه تم التوصل لاتفاق حول إطلاق سراح برانسون في مناقشات جرت بين مسؤولين أتراك وأمريكيين الشهر الفائت من بينهم مايك بومبيو وزير الخارجية الأمريكي ومستشار الأمن القومي جون بولتون على هامش الجمعية العامة للأمم المتحدة بنيويورك. وكانت تركيا قد سعت وفق مراقبين عبر وسطاء لتحقيق اتفاق مع أمريكا وقد تم عقب توقف أردوغان عن حملاته الكلامية ضد واشنطن وتحميلها مسؤولية تهاوي الليرة والأزمات الاقتصادية في البلاد. رأى محللون للوضع السياسي أن أنقرة سعت لاستثمار قضية “خاشقجي” وما يحيطها من غموض وما قد تمتلكه من معلومات لتبريد غضب واشنطن حول التلكؤ المتعمد عن كشف معطيات القضية وأن هذا التباطؤ كان هدفه انتظار اللحظة المواتية لبيع الملف إلى واشنطن. ويطرح إطلاق سراح برانسون وتوقيته من خلال حكم قضائي موجه الكثير من التساؤلات حول مسار التحقيقات التركية في قضية جمال خاشقجي وسط شكوك بوجود توظيف سياسي للقضية بغية تسعير الحملة على السعودية لابتزازها. فعلى الرغم من التجاوب التركي مع طلب السعودية تشكيل فريق عمل مشترك يجمع المختصين في البلدين للكشف عن ملابسات الاختفاء تعطل أنقرة مساع البدء في التحقيقات المشتركة وتتلكأ ولم يخرج هذا التجاوب عن مستوى التصريح السياسي للتنفيذ بعد. يبدو أن أردوغان لم يجد سوى التهدئة حلاً للخروج من عنق الزجاجة وعرض التعاون في قضية اختفاء الصحفي السعودي المختفي وإظهار رغبة في الالتزام والتعاون مع واشنطن لتنحصر بذلك خطاباته الثورية في سياق حسابات داخلية ليس أكثر.
مشاركة :