أثار القرار الذي اتخذه الرئيس الأمريكي دونالد ترامب بترشيح القاضي بريت كافانو لعضوية المحكمة العليا مزيدا من الانقسامات السياسية الحزبية في الولايات المتحدة الأمريكية، بل إن تداعيات ذلك الترشيح قد ألقت بظلالها على الحي السكني الذي أقطن فيه والكنيسة التي أتردد عليها. عاشت أسرتي في منطقة شمال غرب العاصمة الأمريكية واشنطن قرابة أربعة عقود. خلال تلك الفترة، كنا نتردد بانتظام على الكنيسة الكاثوليكية التي توجد على مسافة قصيرة من المنزل الذي تقطنه عائلتي. التحق أطفالي الخمسة بالمدرسة الكاثوليكية كما توليت أنا نفسي العمل كمدرب لكرة السلة على مدى 17 سنة. بعد التخرج التحق أطفالي الخمسة بمدارس ثانوية كاثوليكية في المنطقة نفسها. المدرسة التحضيرية التي تخرج فيها أطفالي هي المدرسة نفسها التي كان يرتادها أطفال القاضي بريت كافانو، الذي كان يتولي تدريب فريق في كرة السلة في المدرسة نفسها. نحن نذهب إلى نفس الكنيسة كما أن المدرسة الثانوية التي درس فيها هي المدرسة ذاتها التي التحق بها ابني الأكبر ودرس فيها على مدى أربعة أعوام. في ظل هذه القواسم المشتركة قد يذهب اعتقادكم إلى أن سكان الحي الذي أقيم فيه والكنيسة التي أرتادها معهم نشعر جميعا بسعادة غامرة لأن أحد أبناء الحي قد عين عضوا في المحكمة الفيدرالية العليا في الولايات المتحدة الأمريكية، لكن على العكس من ذلك فإن الحي الذي أسكن فيه والكنيسة التي أرتادها جميعا نشعر بالاستياء كما أن الانقسامات الحادة قد باتت تشقنا. رغم أن الحي الذي أقيم فيه ينتمي إلى الطبقة الوسطى المرفهة من السكان البيض غير أن السكان هنا هم في أغلبهم من الليبراليين كما أنهم يصوتون للحزب الديمقراطي، ناهيك أن هيلاري كلينتون قد حققت هناك انتصارا ساحقا. بطبيعة الحال هناك بعض الشخصيات السياسية البارزة من الجمهوريين والمحافظين الذين يعيشون في هذه المنطقة ويرتادون الكنيسة نفسها التي نذهب إليها غير أنهم يمثلون الأقلية. عندما أعلن أول مرة عن ترشيح القاضي بريت كافانو جاءت ردود الأفعال في الجوار متباينة. هناك بطبيعة الحال من سارع إلى الإعلان عن تأييده لهذا الترشيح تعبيرا عن ولائه، ذلك أن المرشح كان لمدى طويل ضمن دائرة الأصدقاء المقربين في الحي، أو لأنهم تحمسوا كثيرا لأن أحد سكان الجوار قد يصبح عضوا في المحكمة العليا الأمريكية ويتقلد من ثم، هذا المنصب الرفيع. أما الآخرون فإنهم قد فعلوا ذلك لأن بناتهم كن ضمن الفرق التي دربها القاضي بريت كافانو وهم يعتبرونه «رجلا طيبا». هناك أيضا آخرون، وهم ليسوا كثرة، ممن يؤيدون وصول القاضي بريت كافانو إلى المحكمة العليا الأمريكية لأنهم يتفقون مع فلسفته. وبالمقابل، فإن أغلب جيراني يعارضون القاضي بريت كافانو مثلما يعارضون الرئيس الذي رشحه لتقلد هذا المنصب الرفيع لأنهم يختلفون معهما بشأن الكثير من القضايا السياسية والاجتماعية، والتي ينتظر أن تعرض على أنظار المحكمة العليا الأمريكية. رغم أن القاضي الذي سيعوضه بريت كافانو في المحكمة العليا الأمريكية لم يكن ليبراليا في الكثير من الحالات فقد أضفى على المحكمة بعض التوازن. أما بريت كافانو فهو على العكس من ذلك جمهوري متحزب، كما أنه كان ضمن الفريق الذي سعى إلى عزل الرئيس الأمريكي الأسبق بيل كلينتون. عمل بريت كافانو كمساعد مقرب من الرئيس جورج بوش وقد اختير من بين كل المرشحين الآخرين نظرًا إلى مواقفه المحافظة. لقد كنا نتوقع أن يركز الجدل الذي أثاره هذا الترشيح والتعيين على الخلافات الحزبية بشأن بعض المسائل المهمة مثل برنامج إصلاح نظام الرعاية الصحية وحقوق المرأة وحقوق التصويت وحماية البيئة. عندما بدأت جلسات الاستماع بشأن تثبيت تعيين بريت كافانو أمام اللجنة القانونية في مجلس الشيوخ الأمريكي ظهرت بعض المسائل التي غطت على القضايا الأخرى الخلافية. لقد طالب الديمقراطيون الأعضاء في اللجنة المذكورة بمراجعة السجلات الرسمية للمرشح بريت كافانو خلال الفترة التي عمل خلالها في البيت الأبيض في عهد الرئيس الأمريكي الأسبق جورج بوش. رفض الرئيس دونالد ترامب وقيادة الأحزاب الجمهورية في مجلس الشيوخ الأمريكي كشف النقاب عن90% من السجلات والملفات الخاصة بالمرشح المذكور. لقد أظهرت رسائل البريد الإلكتروني والمراسلات الأخرى التي كشف عنها النقاب أن المرشح بريت كافانو قد كذب وحنث باليمن في جلسة الاستماع السابقة. فقد تبين من خلال السجلات أنه قد كذب بشأن معرفته بسرقة الجمهوريين رسائل البريد الإلكتروني الخاصة بالأعضاء الديمقراطيين في مجلس الشيوخ، إضافة إلى معاملة السجناء المعتقلين في جوانتنامو. لقد أقلقت هذه المسائل الديمقراطيين مثلما أقلقهم غياب نسبة 90% من السجلات والملفات الخاصة بالمرشح المذكور. لقد راح الديمقراطيون يتساءلون: ما الشيء الآخر الذي يحاول أن يخفيه وهل يمكن لشخص حنث بيمين القسم وكذب أن يصبح عضوا في المحكمة العليا الأمريكية؟ شهدت المسألة تطورا جيدا عندما ظهرت الدكتورة كريستين بلازي فورد وزعمت أن بريت كافانو قد تحرش بها جنسيا وقد كان آنذاك في حالة سكر. تطور الأمر وازدادت الادعاءات لتشمل الإفراط في الشرب والتصرفات الجنسية العنيفة في التعامل مع النساء عندما كان المعني بالأمر في المعهد الثانوي ثم في كلية القانون التي التحق بها بعد ذلك. لقد قيل الكثير وكتب الكثير عن الألم الذي يشعر به ضحايا التحرش والاعتداءات الجنسية والذين أدلوا بشهاداتهم وذلك بعد أن روت الدكتورة كريستين فورد ما حدث لها. لقد تأثر عدد كبير من النساء بتلك القصة، سواء كن ضحايا مباشرات للاعتداءات الجنسية أم لا. فقد تعاطفن جميعا مع الدكتورة كريستين فورد وشعرن بمدى ألمها وهشاشتها. لقد تحلت الدكتورة كريستين فورد بشجاعة كبيرة وكشفت عن المعاناة التي ظلت طويلا تخفيها ووجدت، من ثم، القوة اللازمة كي تروي قصتها التي سمعها كل الذين تابعوا أيضا الكيفية التي تعامل بها الجمهوريون مع الدكتورة كريستين فورد، التي قلل من شأنها أيضا الرئيس ترامب، والذي تصرف كمن وضع الملح على الجروح الغائرة التي تأبى أن تندمل، الأمر الذي أثار سخطا مبررا. لقد ترددت أصداء كل هذا الغضب في حي نورث وست في العاصمة واشنطن غير أن هذه الدراما كانت لها تداعيات أخرى مبطنة ومحيرة أيضا. الآلاف من الشباب من الرجال والنساء والذين تخرجوا في مدرسة الذكور التي درس فيها بريت كافانو أيضا أو بقية المدارس الشبيهة المجاورة استحضروا جميعا ذكريات الماضي عندما كانوا في سن المراهقة، وهي ذكريات مؤلمة. لقد عادت بهم الذاكرة عدة عقود إلى الوراء، عندما وجدوا أنفسهم آنذاك يتعاملون مع مجموعة من الرياضيين اللامعين والميسورين والمحظوظين مثلما وجدوا أنفسهم يتعاملون مع مجموعة من الطلاب الدين ينحدرون من نوادي النخبة والذين كانوا يمتلكون الكثير من المال ويعتدون على الآخرين ثم يفلتون من العقاب. صحيح أن بضع مئات من طلاب هذه المدارس المجاورة قد وقعوا على رسائل يدعمون من خلالها المرشح بريت كافانو غير أن آلاف الرسائل الأخرى عبرت عن دعم أصحابها للدكتورة كريستين فورد كما أنهم ذكروا أنهم يصدقون القصة التي روتها. لقد تسبب بريت كافانو بعد ذلك في تعقيد وضعيته بعد أن أحضر أربع عشرة فتاة يلعبن في فريقه لكرة السلة وهن يرتدين زيهم المدرسي وطلب منهم الجلوس في المقدمة أثناء انعقاد جلسة الاستماع في مجلس الشيوخ. لقد وظفهن في حقيقة الأمر وجعل منهن شاهدا صامدا على أنه «رجل طيب»، ومن ثم، دحض كل ما يقال عنه. انضم بعض القساوسة الكاثوليك، ومن بينهم بعض القساوسة السابقين في الكنيسة التي ارتادها في منطقتنا، إلى التجاذبات وقرروا الإدلاء ببعض الحوارات التي أكدوا فيها جميعا أن المرشح لعضوية المحكمة العليا الأمريكية له شخصية مستقيمة. عندما تم تثبيت بريت كافانو في كعضو في المحكمة العليا الأمريكية، أصدرت مدرسته الكاثوليكية بيانا أثنت فيه على استقامته واعتبرت أنه يجسد شعارها الذي تقول فيه «الحياة من أجل الآخرين». لقد تضافرت كل هذه العوامل المذكورة كي تلقي بظلالها وتصيب بتداعياتها الحي الذي أقيم فيه. فقد أدى ترشيح بريت كافانو لعضوية المحكمة العليا الأمريكية، وما رافق ذلك من تداعيات، إلى تفاقم الانقسامات والتجاذبات السياسية الحزبية. لقد أثيرت عدة مسائل سياسية في خضم الجدل الذي رافق ترشيح بريت كافانو، كما أن تثبيته في المنصب قد أثار الكثير من الاستياء. علق صديق لي يعيش في المنطقة ذاتها التي أقطن فيها في نورث وست بالعاصمة واشنطن على ما حدث بقوله: «.. وكأن كنيستنا لا تواجه قضية تورط بعض القساوسة في أزمة الانتهاكات الجنسية. لماذا يتعامى البعض عن رؤية الضرر الذي يحدثونه ولا يدركون أنهم إنما يزيدون الطين بلة والوضع سوءا». لقد أدى بريت كافانو اليمين وأصبح عضوا قاضيا في المحكمة العليا الأمريكية. ومن ثم ، انتهى هذا الجزء وطويت صفحته. وبالمقابل، فإن ما لم ينته هو الشعور بالألم والثقة المهزوزة، وهو الأمر الذي ينهش اليوم الولايات المتحدة الأمريكية ويزيد من حدة الانقسامات والتجاذبات السياسية. أثر هذا الوضع على المنطقة التي أعيش فيها والكنيسة التي أرتادها. فقد أصابتهما أيضا التداعيات.
مشاركة :