قل لي ما يضحكك؟ أقل لك من أنت

  • 10/18/2018
  • 00:00
  • 4
  • 0
  • 0
news-picture

قِيل إن الضحك هو سلاح الإنسانية للمحافظة على المرتبة التي وصلت إليها فوق الجماد وفوق الحيوان، ومن هنا استحال على الحيوان أن يضحك لأنه لم يصل إلى هذه المرتبة، وليس عنده من التمييز ما يستدعيه. ويحدث أن يحزن الحيوان، لكنه لا يضحك أبدا، فهو غير قادر على ذلك، لأن الضحك خصلة إنسانية ملازمة للعقل. ولا غرابة؛ يقول محمود العقاد، في أن "يعرّف الإنسان بالضحك كما يعرّف بالمنطق والتمييز، لأن المنطق هو الذي يجعلنا نضحك، وكل عمل مضحك فهو في حقيقته منطق ناقص أو قضية يختل فيها القياس والترتيب". ويضيف أن "الإنسان حيوان ضاحك، على غرار الإنسان حيوان ناطق؛ فكلاهما وصف لا ينفصل عن التمييز ولا يتحقق لغير الإنسان". وذهب آخر حد اعتبار الضحك وسيلة، للبحث عن منفذ ناجع، لاقتحام وجودية الغير من حيث لا يدري، والخروج عن وجودية الذات. وبذلك تتحقق عملية التواصل "الأنا/ الغير"، ويتم الانفتاح المشروع على الوجود المختلف، بدل الارتكان إلى الوجود المغلق الذي يوقظ فينا يوما بعد يوم، ولحظة بعد أخرى الإحساس بالقلق والتوتر. وهذا ما عبّر عنه الفيلسوف الألماني نيتشه، بقوله "لما كان الإنسان هو أعمق الموجودات شعورا بالألم، كان لا بد له من أن يخترع الضحك". ما لا يعلم كثيرون أن الضحك شكَّل مبحثا في الفلسفة، ويبقى الفيلسوف الفرنسي هنري برجسون؛ الحاصل على جائزة نوبل للآداب عام 1927، فيلسوف الضحك بامتياز، فهو صاحب كتاب "الضحك" الذي يقول فيه "إن النفوس الجامدة، لا تعرف ولا تفهم الضحك، جربوا للحظة الاهتمام بكل ما يُقال وكل ما يجري، وتصرفوا بالخيال.. سترون الأشياء الأكثر خفة تتخذ وزنا.. ابتعدوا بأنفسكم، شاهدوا الحياة كمتفرج لا مبال.. كثير من المآسي يتحول إلى كوميديا". من بين الوظائف التي يراها برجسون للضحك أنه "حين يضحك المرء من شخص آخر أو من تصرفه فإنه يقوم بدور المصلح الاجتماعي"، لأن الضحك كما يقول المؤلف "يلفت النظر إلى العيوب التي تسيء إلى المجتمع وتصيبه بالخلل". لكن التنظير الفلسفي للضحك لدى برجسون لم يكن في هذا الكتاب، إنما في كتاب لاحق بعنوان "الحدس الفلسفي" الذي أثير كثير من الجدل بشأنه في مؤتمر للفلسفة في إيطاليا. واعتبر بعض الباحثين أن هذين الكتابين مترابطان، فالثاني بمنزلة المقدمة النظرية والفلسفية المنطقية للأول، لكنه لم يحظ بالأهمية المستحقة، على الرغم من كونه يؤطر فلسفيا الكتاب الأول، ويحلل ظاهرة عمرها من عمر الإنسان، ترافقه في حياته اليومية. اهتم الفلاسفة بالضحك عبر تاريخ الفلسفة الطويل، لدرجة أن نيشته رفع تحديا في كتابه "ما وراء الخير والشر" حين قال "سأغامر بتصنيف الفلاسفة حسب ضحكهم". فيما استدعى أرسطو الضحك عند مقاربته للكوميديا، بقوله "لما كانت التسلية وكل ضرب من ضروب الاسترخاء والضحك، أمورا لذيذة، فإن الأشياء المضحكة؛ أناسا كانت أو كلمات أو أفعالا، هي لذيذة لا محالة". أما اسبينوزا فيدعونا في كتابه "علم الأخلاق" إلى وضع حد فاصل بين الضحك والسخرية. بعيدا عن السجال الفلسفي حول هذا الموضوع، الذي يبدو منفلتا من خلال وجهات نظر مختلفة، تعبر عن تكاملها في نفس الوقت، حتى بلغ الأمر بالكاتب الفرنسي مارسيل بانيول درجة اتخاذه معيارا لتصنيف الأفراد، حيث أنهى رسالته حول "الضحك" بقوله "قل لي مم تضحك؟ أقل لك من أنت". علاقة بما يضحك، نشير إلى أن أوج الضحك في الساحة الفنية العالمية بدأ في فترة ما بين الحربين، مع الأفلام الصامتة للممثل الإنجليزي شارلي شابلن، الذي قيل إنه قرأ كتاب برجسون أكثر من مرة، ومن بعد الثنائي البريطاني لوريل وهاردي، اللذان اشتهرا بمواقفهما الثنائية التي صنعت ضحكا من نوع آخر. عربيا، نشير إلى أن تاريخ الضحك في الثقافة العربية لم يكتب بشكل كامل حتى الآن، ولا يزال الموضوع بحاجة إلى مزيد من البحث والتنقيب والكتابة، ولا سيما عن أعلام التراث العربي الذين لهم صلة بهذا الشأن. فالخزانة العربية في هذا المجال لا تزال شبه فارغة من مراجع، باستثناء مؤلف "الفكاهة والضحك" (2003) للكاتب المصري شاكر عبدالحميد، وكتاب "الضحك تاريخ وفن" (2015) للسوري نصر الدين البحرة. انتشر في السنوات الأخيرة، في عديد من الأماكن في العالم، ما يعرف بـ "أندية الضحك"، فيما أحيى عديد من المعاصرين مقولة الكاتب الإغريقي ديوجانس اللايرتي؛ القرن الثالث بعد الميلاد، التي يقول فيها "إن الضحك أفضل دواء"، فانتشرت ظاهرة العلاج الجماعي بالضحك لمشكلات الانهيار العصبي المتفاقمة؛ خصوصا بعد النجاح الذي شهده أول مؤتمر عالمي للضحك والعلاج النفسي في مدينة بال السويسرية عام 1997، كما اهتدت بعض الشركات التجارية إلى الضحك للقيام بخدمات تسويقية لمنتوجاتها. يحضر الضحك أيضا في عالم الأدب، حيث شكل محور بعض الأعمال الروائية؛ عالميا وعربيا، كما هو الحال مع اليساري الفرنسي من أصول تشيكية ميلان كونديرا في روايته "الضحك والنسيان" (1978)، وقبله فيكتور هوجو في رائعته "الرجل الضاحك" (1869). وكانت رواية "الضحك" (1971) أول أعمال الروائي الأردني الراحل غالب هلسا. أخيرا نشير إلى أمرين أساسيين، أحدهما؛ أن الضحك لغة عالمية، لا تؤمن بالحدود والحواجز؛ فهو مفهوم في العالم بأسره. إذ بإمكان مواطن صيني أن يضحك، ويفهم العربي والإفريقي والأسترالي أنه يضحك. والآخر أن الموت من الضحك صنف أخيرا ضمن قائمة أنواع الوفيات النادرة. فعلى إثر نوبة ضحك هستيرية، قد يتعرض الشخص إلى سكتة قلبية أو حالة اختناق تفضي إلى وفاته، على غرار ما حدث مع بعض المشاهير أمثال الرسام الإغريقي زيوكس والفيلسوف خريسيبوس.

مشاركة :