حين كنت صغيرًا، كنت أسأل ببراءة عن سبب منعهم لي من الرقص الشرقيّ، فتكون إجابتهم: "لأنك صبي". كنت أنظر بدهشة إلى جسم نعيمة عاكف، من شاشة تلفزيون جارتنا أم طلال، أقلّد حركات جسمها الفارع في فيلم "تمر حنة"، أمام مرآة غرفة نوم أهلي. أغلق الباب وأتفرج على جسمي النحيل متمايلاً برشاقة. تاركًا قدمي الصغيرتيْن تتوزعان بحرية فوق البلاط ويداي ترتفعان بهدوء كأنهما تبتهلان من الرقة. لكن سرعان ما يكسر هذا المشهد دخول أحدهم. فأرتبك وأقنعه بأني أقوم بحركات رياضيّة. تلك التي أكرهها إلى يومنا هذا. انوا يطوقونني لأرقص لهم، أفرح بابتهاجهم وتصفيقهم. بعضهم يسخّر مني وبعضهم يحبّ رقصي. شاركغرد كان أهلي يمنعونني من الرقص أمام أقاربنا وفي أعراس الضيعة، لا سيما حين أطلق عليّ الفتيّة لقب، هويدا الهاشم، الراقصة اللبنانيّة التي كانت حينها أيقونة في عالم التلفزيون وحفلات رأس السنة. كانوا يطوقونني لأرقص لهم، أفرح بابتهاجهم وتصفيقهم. بعضهم يسخّر مني وبعضهم يحبّ رقصي. ومع الوقت نسيت الرقص، أو تناسيته. إلّا أنني كلما رأيت رجالاً يظهرون في فيديوهات ويرقصون ويعبرون عن أجسامهم بطلاقة أفكر ماذا لو تركوني أرقص كما يحلو لي؟ ربما كنت راقصًا اليوم، من يعلم؟الخروج من "شيفرة" الرجل/ الذكر مع مرور الوقت اكتشف أن الزمن تغير ومفاهيمه أيضًا. فقبل 18 عامًا لم يكن الرقص الرجالي في عالمنا العربي يحمل هذه الرمزية التحرريّة، بل كان يحتكم إلى سلطة منع قاهرة، أو لنقل تجريمًا اجتماعيًا له. لكن مع تحرر رغبات الرجال وتنوعها، وخروجها من "شيفرة" الرجل /الذكر، صرنا نرى تحررًا أيضًا في احتراف الرجال للرقص الشرقيّ. صار هناك تعبير أوسّع لحبّهم لهذا النوع في الأعراس والسهرات. بغض النظر عن إلصاق هويّة جنسانيّة للراقص. فالرقص الشرقي عند الرجال رُبط مرارًا بالمثلية. وهو أمر لا دلالة علميّة فيه. ومجرد تنميط اجتماعيّ وتصنيف جنسانيّ على أساس "الكودات" الجسمانيّة والسلوكيّة. وهو ما يدفع رجالاً كثيرين يحبون الرقص إلى عدم إظهار موهبتهم أو ببساطة عدم التعبير عن فرحهم بالرقص، كفكرة غير مرتبطة بأي كود جنسيّ ولا جندري حتى. فالرقص هو رقص ولغة جسد متحركة مع الموسيقى. فالرقص الشرقي عند الرجال رُبط مرارًا بالمثلية. شاركغرد وربما رسخت الأفلام المصرية، لاحقًا، كمعرفة ثقافيّة (السينما والتلفزيون على حد سواء) بعضًا من الاعتقاد الخاطىء أن الرقص هو للنساء فقط. وأعطت صورة مشوهة أصلاً عن الرقص كمهنة وفنّ ومعرفة. ووضعت الراقصة كهادم للقيّم الاجتماعيّة أو كبائعة هوى أو تاجرة مخدرات وتدير شبكات سرقة واحتيال. وكأنها الشرير الذي سيدخل كلّ حياة رجل في متاهة، وللأسف قبول كثير من الراقصات العربيّات بهذا الدور، ضاعف من النظرة السلبيّة بحق المرأة الراقصة، وأضعف أيضًا قدرتها على تقديم عملها كفن له أصوله ونباهته، بعيدًا عن النظرة الذكوريّة له كتنويع للإغراء ولسهرات المجون. حيث ينظر إلى الراقصة كشهوة متحركة.تاريخيًا، عُرف الرقص الشرقي بأنه للرجال أيضًا لكن السلطة الثقافيّة في الدول العربيّة أقامت معارف محدودة، شوهت صورة الرقص الشرقيّ بشكل عام وأبادت تنوع هويّاته الجنسانيّة. فالصورة النافذة إلى عقول العامّة وبعض النخبة أيضًا، المصابين برهاب الرقص، هي أن الرقص الشرقي هو لإمتاع الشاربين والباحثين عن الرغبات، فألصق البغاء بالراقصات، والرجل حين يرقص فإما هو مثلي وإما يبيع جسمه. ربما بعض الحالات التي انتهجت مسلكها الخاص في بيع جسدها وهي تمارس الرقص الشرقيّ، لا تعمم على هذا الفن وأيضًا لا تسيء إليه. وبيع الجسد حق، كما الحق في الشراب والطعام والتنقل. وهذه حريات شخصية لا دخل لنا بها. والرقص الشرقي تاريخيًا كان للجنسيْن. ولأسباب متنوعة، لم يمنع الرجل من ممارسته الرقص، أسوة بالمرأة، وفي حقبات تاريخيّة عُرف الرقص الشرقيّ تنوعه للرجال والنساء ولكل مزاجه وطقوسه وأعرافه. فمثل أي فنّ شعبيّ مقسّم أيضًا على أساس الجندر، فهناك رقص شرقيّ رجاليّ ورقص شرقيّ نسائيّ، وهذا لا يمكن التغاضي عنه. لكن حري بنا اليوم التحدث أيضًا عن تحرير الرقص من جندريته هذه أو من تصنيفه. أو ليس الرقص فنًّا لا حدود له؟ فلماذا نضع له هويّات وأسماء؟ أليس بالأحرى أن يخرج الرقص من التعميم والترقيم والتبعيّة للتصنيفات؟ والحال أن الرجال كانوا يمارسون الرقص الشرقي في القاهرة واسطنبول وبغداد وحلب. في زمن انتهى مع بدايات التقادم وتمظهر الحركات الدينيّة والعصبيّات الطائفيّة والجهالة الفكريّة. بقول المستشرق البريطانيّ إدوارد لين في كتابه "أخلاق المصريّين المعاصرين وعاداتهم"، أن سكان القاهرة "كانوا يفضلون الرجال حيث كانوا يؤمنون حينها أنه لا يمكن للنساء أن يظهرن أنفسهن، إلّا أن تغيرًا طرأ على المجتمع المصري وبدأ الراقصون الرجال بالاختفاء تدريجيًا". أقوال جاهزة شاركغردحين كنت صغيرًا، كنت أسأل ببراءة عن سبب منعهم لي من الرقص الشرقيّ، فتكون إجابتهم: "لأنك صبي". شاركغردومع الوقت نسيت الرقص، أو تناسيته. إلّا أنني كلما رأيت رجالاً يظهرون في فيديوهات ويرقصون ويعبرون عن أجسامهم بطلاقة أفكر ماذا لو تركوني أرقص كما يحلو لي؟ ربما كنت راقصًا اليوم، من يعلم؟ شاركغردمع مرور الوقت اكتشف أن الزمن تغير ومفاهيمه أيضًا. فقبل 18 عامًا لم يكن الرقص الرجالي في عالمنا العربي يحمل هذه الرمزية التحرريّة، بل كان يحتكم إلى سلطة منع قاهرة، أو لنقل تجريمًا اجتماعيًا له. شاركغردلكن السلطة الثقافيّة في الدول العربيّة أقامت معارف محدودة، شوهت صورة الرقص الشرقيّ بشكل عام وأبادت تنوع هويّاته الجنسانيّة.كسر الصورة النمطيّة والنماذج الرجاليّة في الرقص الشرقيّ تعود وتطلق موجة جديدة في عالمنا العربيّ، كاسرة الصورة المنمطة عن الراقص الرجل. ففي مصر ظهرت أسماء كثيرة من بينها: خليل خليل وتيتو ومحمود شاكيرا وفريد مصباح وخالد محمود وطارق سلطان وحاتم حمدي، وكثير منهم غادر مصر. وفي لبنان هناك ألكساندر بوليكوفيتش الذي أعاد "أفهمة" الرقص الشرقيّ وطوّر بعضًا منه في دمجه مع الرقص الـ"كونتموبران". لكن السؤال هو متى تتبنى المؤسسات الثقافيّة (الرسمية والمستقلّة) "أنمذجة" الرقص الشرقيّ خارج التصنيف الجندريّ والاستخدام الإعلامّي المستفز، وتؤسس مدارس له، كرقص الباليه والرقص الفلكلوريّ من دون تمييز بين مريديه، وتعيد دراسة هذا الجانب الإنساني المتنوّع في شرقنا؟ هذه التدوينة تعبر عن رأي أصحابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي رصيف22. صهيب أيوب كاتب وصحافي لبناني مقيم في فرنسا. عمل في صحيفة "الحياة" اللندنية وأسس مشروع "تعا نكتب" الهادف إلى تعميم الكتابة الإبداعية بين أوساط اليافعين، وينشط في مجال حقوق الإنسان والجندرة. التعليقات
مشاركة :