تجمعت مجموعة من التطورات المحلية والإقليمية والدولية تؤكد أن انقطاع الحوار السياسي بين المعارضة والنظام السوداني على وشك الانتهاء، فقد تيقنت الأولى من أن الأفق يزداد انسدادا أمامها مع اتساع نطاق الانفتاح بين الخرطوم والفضاء الإقليمي، وتراجع حدة الانتقادات الدولية للرئيس عمر حسن البشير، ولم يبق أمامها سوى الرضوخ للحوار معه. تواترت الإشارات الإيجابية التي أرسلتها قوى في المعارضة السودانية خلال الأيام الماضية، بصورة تنطوي على ملامح تغير لافت في موقفها الصارم من النظام الحاكم في الخرطوم، ورفض الحوار معه تحت أي سقف جديد. أبدى الصادق المهدي، زعيم حزب الأمة القومي، رغبة في العودة إلى الخرطوم وممارسة دوره من هناك، ليس تحديا للاتهامات التي تطارده وقد يصل الحكم فيها إلى السجن المؤبد أو الإعدام، لكن تجاوبا مع الدعوة التي وجهها أخيرا ثامبو مبيكي، رئيس جنوب أفريقيا الأسبق، رئيس لجنة الوساطة بين المعارضة والخرطوم، وترمي إلى التوصل إلى صيغة للتفاهم بينهما حول القضايا الشائكة. يقود مبيكي وساطة بين تحالف نداء السودان، ويضم أطيافا سياسية وعسكرية متعددة، والحكومة، وتبلورت ملامحها في سبتمبر من العام الماضي في شكل توافق على “خارطة طريق” لم يتم تنفيذ بنودها، تسعى إلى تهيئة البلاد لمرحلة جديدة من الانفتاح السياسي وتستوعب جميع الأطراف. أعاد مبيكي في زيارته إلى الخرطوم الأسبوع الماضي، طرح مقترحه الذي يتضمن دعوة إلى الحوار المباشر حول كتابة دستور للبلاد والانتخابات الرئاسية والبرلمانية والولاياتية 2020، ومع أن المعارضة رفضت المقترح واعتبرته يتجاوز “خارطة الطريق”، غير أن التلميحات الصادرة من بعض قياداتها تشير إلى احتمال قبول المقترح أو التباحث بشأنه، فلم تعد الممانعات السابقة مجدية. وكتب ياسر عرمان، الأمين العام للحركة الشعبية-جناح عبدالعزيز الحلو، مسؤول العلاقات الخارجية في تحالف نداء السودان مقالا مؤخرا، ألمح فيه إلى إمكانية عودة المعارضة المسلحة والمدنية إلى الداخل، وهي علامة تؤكد أن الرجل قرأ المعطيات الإقليمية جيدا، وربما يدعو إلى قطع الصلة مع الثوابت التي حكمت مواقفه سلفا. أخفقت المعارضة، المسلحة والسياسية، وهي في أوج نشاطها خلال تسعينات القرن الماضي، في إجبار النظام السوداني على تقديم تنازلات واضحة، والقبول بإصلاحات هيكلية تهيّئ البلاد لتصحيح المسار، وفشلت في توظيف مواقف قوى إقليمية ودولية مناوئة للخرطوم لصالحها وفوتت الفرص لتكون رقما مركزيا في المعادلة الرئيسية في البلاد. تجربة يصعب تكرارها الصادق المهدي يُبدي رغبته في العودة إلى الخرطوم وممارسة دوره من هناكالصادق المهدي يُبدي رغبته في العودة إلى الخرطوم وممارسة دوره من هناك ربما نجحت تجربة الحركة الشعبية لتحرير السودان في فصل جنوب السودان عن شماله والتوصل إلى اتفاق نيفاشا 2005 ثم الحصول على الاستقلال بعده بستة أعوام، في وقت كان هناك زخم دولي مؤيد لهذه الخطوة، لكن لم تتمخّض محاولات الفصائل المسلحة في كل من دارفور وجنوب كردفان والنيل الأزرق، في الضغط على النظام السوداني لانتزاع مكاسب نوعية منه وتحسين الأوضاع التي قاتلت من أجل تغييرها. كذلك لم تستفد قوى المعارضة السياسية من الأزمات الاقتصادية التي يموج بها السودان، وعلى العكس وجه لها النظام الحاكم ضربات متتالية وسد أمامها الأبواب والنوافذ والثغرات التي يمكن أن تنفذ منها، ما قلل من فرصها في أن تكون ولو معارضة مشاغبة، تحظى بتأييد في الشارع وكلمة مسموعة لدى المواطنين. أعاد الرئيس السوداني عمر البشير هيكلة حزب المؤتمر الوطني الحاكم بشكل أبعد عنه المناهضين لسياساته، وقام بتغييرات كبيرة داخل الأجهزة الأمنية، بدءا من وزارة الدفاع التي وضع على رأسها الفريق أول عوض محمد أحمد بن عوف، وجهاز الاستخبارات ووضع على رأسه الفريق صلاح عبدالله (قوش)، والإدارات المختلفة التابعة لكل منهما، فضلا عن إعادة تدوير مناصب وزارية وتقليصها بصورة تضمن لرئيس الجمهورية سيطرة كاملة على مفاتيح الأمور. فوت البشير الفرصة التي كانت تريد المعارضة استثمارها والخاصة بتذمر قطاعات واسعة من المواطنين احتجاجا على الغلاء، وفرضت أجهزته الأمنية قبضتها على الشارع بما حال دون خروج مظاهرات كبيرة، الأمر الذي جعل المعارضة تنكفئ على نفسها، وتكتفي بإصدار بيانات تندد بتصرفات النظام السوداني، وحتى هذه لم تجد آذانا صاغية من قبل جهات خارجية درجت على التفاعل معها. جاءت الضربة القوية للمعارضة السودانية عقب غلق محيط الحركة الإقليمي في وجهها، وهي التي كانت نواتها الرئيسية تنطلق من السودان وتتمركز في إثيوبيا وإريتريا وكينيا ومصر وجنوب السودان، وكلها دوائر استطاعت الخرطوم إعادة التموضع معها بطريقة إيجابية. وأحد أهم التجليات الظاهرة وقف الحرب التقليدية التي كانت المعارضة في هذه الدول وقودها الرئيسي. أقام السودان علاقات جيدة مع إثيوبيا، ويعتزم الاستفادة من الانفتاح عليها، تنمويا وسياسيا، ضمن روزنامة إقليمية واعدة، وفكك العُقد التي تراكمت مع إريتريا بسبب الحرب بالوكالة من خلال المعارضة، وضاعف من توطيد العلاقات مع كينيا، على غرار التفاهمات السابقة التي توصل إليها مع تشاد، وأغلقت الجبهة الغربية أمام المعارضة المسلحة. وأخيرا، قادت الخرطوم معركة السلام الطويل في جنوب السودان بدلا من الحرب، ورعت اتفاقا تاريخيا في 5 أغسطس الماضي بين الرئيس سيلفا كير ونائبه الأول السابق رياك مشار، أصبح النواة التي ينطلق منها الهدوء والاستقرار في الجنوب.. بموجب هذا الاتفاق بدأت تطوى إحدى الصفحات القاتمة بين الخرطوم وجوبا، وكان دعم المعارضة على الجانبين أهم أوراقها السياسية والعسكرية، وعندما تغلق هذه الصفحة يكون السودان تمكن من السيطرة على أخطر الجبهات التي كانت مفتوحة أمام معارضيه المسلحين، في جنوب كردفان والنيل الأزرق وإقليم دارفور، لأن دولة جنوب السودان كانت الداعم الأول لهؤلاء، لذلك كان مقال ياسر عرمان الأخير معبرا عن ضرورة العودة إلى الداخل، ما يعني تزايد فرص عدم الاعتماد على الحلول العسكرية. ازدهرت الخيارات المسلحة لدى المعارضة السودانية جراء الدعم الذي توافر لها من خلال البيئة الإقليمية الرخوة، ومحاولات بعض الدول تصفية حساباتها السياسية دون التورط مباشرة في نزاعات وصراعات، فجرى اللجوء إلى دعم قوى المعارضة وتوفير أنواع مختلفة من الدعم اللوجيستي لأجنحتها المسلحة. انحسار الحركة الإقليمية العدّ التنازلي للمعارضة يجبر قياداتها على قبول ما تم رفضه سابقاالعدّ التنازلي للمعارضة يجبر قياداتها على قبول ما تم رفضه سابقا انعكس تحسن علاقات السودان مع مصر على المعارضة أيضا، وكان الكثير من قياداتها يجدون في القاهرة ملاذا آمنا طوال السنوات الماضية، ربما لم تقدم مصر دعما ظاهرا لها، لكن مجرد وجودها على أرضها حمل دلالات على أنها تحظى برعايتها الضمنية، إلى أن أصبح الوجود الرمزي للمعارضين مرفوضا من جانب الخرطوم، وهو ما اضطر القاهرة إلى منع دخول الصادق المهدي مثلا، وإنهاء فترة ممتدة عاش فيها آمنا داخل مصر، ويتحرك منها وإليها كيفما شاء. كانت هذه واحدة من الاختراقات الواضحة التي حققها النظام السوداني منذ حوالي ثلاثة أشهر، وقد تكون هذه هي المرة الأولى التي يجري التعامل فيها مع المهدي بهذه الطريقة، ما يشير إلى أن حقبة المعارضة السودانية في الخارج يتم إغلاقها تدريجيا. يأتي انحسار مجال الحركة الخارجية في وجه المعارضة في سياق عام أشمل وأهم، يتعلق بقدرة النظام السوداني على نسج علاقات متينة مع قوى كثيرة في المجتمع الدولي، على رأسها الولايات المتحدة، التي رفعت عقوبات اقتصادية كانت مفروضة على الخرطوم منذ سنوات، ويخوض الجانبان حوارات جادة لرفع اسم السودان من على قوائم الإرهاب الأميركية، وهي خطوة مهمة تكمل ما سبقها من تحركات تريد أن يكون السودان رقما مسالما في المنطقة. يمثل هذا التطور أحد المعالم التي تؤكد أن النظام السوداني الذي كان يئن تحت وابل من الضغوط الخارجية، نجح في التخلص من تركة أثقلت كاهله طوال سنوات طويلة، وبدأ يعيد صياغة مفاهيمه بما يضبطها على موجة دولية لم تعد تتقبل وجود قوى مشاغبة أو معطلة لبعض الأفكار المطلوب ترويجها في المنطقة، وتمنح الجانب التنموي بعدا خاصا. من هنا قلّصت الخرطوم الكثير من توجهاتها الإسلامية، وهي واحدة من الاستدارات التي قامت بها لطمأنة القاهرة وكسب ودّها، والأهم أنها تحمل رسائل سياسية لجهات وضعت السودان في خندق مغلق مع الجماعات الإسلامية المتطرفة والدول الداعمة لها، خاصة الراغبة في التأثير على مجريات الأحداث في البحر الأحمر. التقط السودان فكرة التغيرات الحاصلة في الإقليم وبدأ يتعامل معها ويطوعها وفقا لظروفه الداخلية، وعلى أساسها قام بعملية إحلال وتجديد في بعض القيادات المعروفة بانتمائها إلى الحركة الإسلامية، وأوقف تصورات سلبية عدة حيال جنوب السودان ومع إريتريا ومصر وقبلهما إثيوبيا، وأخذ يتجاوب مع مكونات قد تجعله محورا مهما يمكن الاستفادة منه عند تدشين بعض المشروعات التنموية العابرة للدول الأفريقية. إذا كان النظام السوداني نزع الكثير من الأدوات التي كانت سيفا مسلطا على رقبته من قبل معارضيه، فكيف يستطيع هؤلاء مناطحته، وهم لا يملكون وسائل قوة حقيقية على الأرض؟ وكيف يتسنى لهم التحريض إقليميا ودوليا عليه، وهي واحدة من أهم الوسائل التي جعلت للمعارضة السودانية جاذبية سياسية في الخارج على مدار السنوات الماضية؟ اختصر الصادق المهدي وياسر عرمان الطريق بعد أن قطعا مسافات طويلة من المناكفة عديمة الجدوى، ويبدو أن القراءة السليمة للمعطيات الدولية وفرت لهما فرصة جيدة للمصارحة مع النفس، لأن الضجيج الذي مارسته المعارضة في أثناء إقامة قياداتها بالفنادق الفخمة في عواصم مختلفة، فقد أو على وشك أن يفقد، مردوديته السياسية، لذلك جاء قرار العودة بالمعارضة من داخل البلاد، عسى أن تستطيع قياداتها الحصول على مكانة شرفية، لأن هذه المناكفة لم تعد مضمونة في ظل مواصلة التكسير في عظام السودان من الخارج. يأمل المهدي وعرمان وأمثالهما أن يكون حظهم أفضل هذه المرة، لأن التشبث بمواقف صارمة وفرض شروط قاسية تجاه التعامل مع النظام السوداني لن يكون لهما مكان حاليا أو مستقبلا، بعدما نجحت الخرطوم في تطبيع علاقاتها مع قوى إقليمية ودولية عديدة، وربما تنتج المبادرة التي يحملها ثامبو مبيكي شيئا ملموسا يحفظ للمعارضة الحقيقية ماء الوجه. تمكن الرئيس البشير ورفاقه من تشويه صورة غالبية قوى المعارضة عندما استقطبوا بعضها وأبعدوا آخرين، كلما أرادوا ذلك، وتحول الحوار السياسي إلى هواية أدت إلى إجادة التعامل معهم وعدم الاستجابة لمطالبهم في غالبية المحطات التي اضطر الطرفان إلى الجلوس معا على مائدة واحدة في أي من العواصم المجاورة. إذا لم تستفد المعارضة من مبادرة مبيكي، وتحولها إلى فرصة ستتلاشى، ومن يراجع الأسماء والرموز التي اعتمدت عليها المعارضة على مدار العقود الثلاثة الماضية يجدها لم تختلف كثيرا، والتغير الذي يمكن ملاحظته يتعلق بظهور بعض الأبناء بجوار الآباء، فلم تنتج المعارضة نسلا حيويا يستطيع مواصلة المسيرة، بينما جدد النظام في نخبه، ما وفر له قدرا من العافية التي تمكنه من الصمود ومواجهة العواصف الطارئة. يجبر العدّ التنازلي للمعارضة قياداتها على قبول ما تم رفضه سابقا، وتبقى المشكلة تتعلق بحجم التنازلات التي يمكن أن يقدمها النظام، وهو الذي رفض في أوج ضعفه تقديمها، فما بالنا وهو يدرك أنه قوي والفرصة مواتية أمامه بأقل صخب إقليمي ودعم دولي.
مشاركة :