شكل حزب العدالة والتنمية الذي يتزعمه الرئيس التركي رجب طيب أردوغان وحزب الحركة القومية الذي يترأسه دولت بهجلي، تحالفا قبل انتخابات يونيو 2016، لكنهما في خلاف منذ ذلك الحين، انتهى إلى إعلان دولت بهجلي أن حزبه لن يسعى إلى تحالف في الانتخابات المحلية لعام 2019، في موقف لم يستغربه المتابعون مثلما لم يستغربوا من قبل التحالف المتناقض بين أردوغان وبهجلي. أنقرة – أعلن رئيس حزب الحركة القومية التركي دولت بهجلي أن حزبه لم يعد يتطلع إلى إبرام تحالف مع حزب العدالة والتنمية الحاكم حيال الانتخابات المحلية المقبلة، في خطوة كانت متوقعة نظرا للتباين الكبير بين الطرفين وللخلافات التي صعدت على السطح مباشرة بعد ترتيب أوراق مرحلة ما بعد الانتخابات وتمرير التعديلات الدستورية التي بوأت أردوغان حاكما بصلاحيات مطلقة. شهدت الفترة التي تلت انتخابات 24 يونيو الرئاسية والبرلمانية سلسلة من التطورات الهامة للغاية في مجالات الاقتصاد والسياسة الخارجية، التي هيمنت بشدة على أجندة تركيا السياسية. ومن بين هذه التطورات، الأزمة بين تركيا والولايات المتحدة حول قضية القس الأميركي أندرو برانسون والعقوبات الأميركية على تركيا وتأثيراتها على الاقتصاد والجهود التركية الروسية لتجنب عملية عسكرية شاملة في محافظة إدلب، ومقتل الصحافي السعودي جمال خاشقجي في القنصلية في إسطنبول. وبالتزامن مع ذلك، كانت هناك التطورات والاتجاهات المثيرة للجدل في المشهد السياسي المحلي التركي، في ما يتعلق بتمرير القوانين والتعديلات والقرارات. ألقت كل هذه القضايا بظلالها على ديناميكيات التحالف بين حزب العدالة والتنمية وحزب الحركة القومية، في وقت تتهيأ فيه كافة الأحزاب لترتيب أوراقها استعدادا للانتخابات المحلية (البلدية) في مارس 2019. وينزع انتهاء التحالف السياسي مع الحركة القومية عن إستراتيجية أردوغان في الحكم أحد أعمدتها الرئيسية وهي القومية، إذ ترتكز رؤيته على المزج بين التوجهات الأيديولوجية الإسلامية التي يمثلها حزب العدالة والتنمية، ومد قومي صاعد، ينظر إليه باعتباره الرافد الثاني الضروري لاستعادة العثمانية السياسية التي يطمح لها. وسيترك الانفصال المدوي آثارا سلبية على قدرة حزب العدالة والتنمية على إبداء مرونة في التعامل مع مشاريع القوانين وتمرير رغبة أردوغان في البرلمان. فبـ290 مقعدا، لا يملك حزب العدالة والتنمية ما يكفي من المقاعد في البرلمان (600 مقعد) للحصول على الأغلبية المطلقة. الانفصال سيترك آثارا سلبية على قدرة حزب العدالة والتنمية على إبداء مرونة في التعامل مع مشاريع القوانين وتمرير رغبات الرئيس رجب طيب أردوغان في البرلمان ولا يعرف ما إذا كان حزب الحركة القومية سينتقل إلى صفوف المعارضة بعد، لكن إن حدث ذلك فسيترك أردوغان بلا خيارات تذكر. وعادى أردوغان مختلف التيارات السياسية التركية الأخرى، بدءا بحزب الشعب الجمهوري العلماني، ووصولا إلى حزب الشعوب الديمقراطي، الذي يوصف اليوم بين حلفاء أردوغان باعتباره “حزبا معزولا” يدعم “الجماعات الإرهابية”، في إشارة إلى حزب العمال الكردستاني وقوات حماية الشعب في سوريا. وكان حزب الحركة القومية حائط الصد المتبقي في الدفاع عن شرعية أردوغان كـ”رئيس عابر للانتماءات السياسية”، لكن نظام الحكم التركي بعد هذا الانفصال تحول إلى هدف واضح لا يحظى بحماية من أي تيارات أخرى. تحالف ولكن.. عرف عن دولت بهجلي، الذي يقود حزب الحركة القومية منذ سنة 1997، أنه من أشدّ المنتقدين للرئيس التركي رجب طيب أردوغان، الذي يعرف بدوره بتبدّلاته عند الضرورة، حتى لو اقتضى الأمر الانقلاب على أقرب الأصدقاء والحلفاء، كما حصل مع شريكه في إنشاء حزب العدالة والتنمية الرئيس التركي السابق عبدالله غول، ومع فتح الله غولن الذي يعد اليوم من ألدّ أعدائه. وبدأ التقارب بين اليمين القوميين والإسلاميين في تركيا، عقب عملية الانقلاب الفاشل في صيف 2016، حيث تبنى بهجلي موقف أردوغان. وشهد هذا التقارب ذروته عندما لعب زعيم القوميين دورا محوريا في إجراء الانتخابات قبل الموعد المقرر لها بأكثر من عام. وفي خضم الاستعدادات للانتخابات الرئاسية والبرلمانية، أعلن دولت بهجلي عن إبرام تحالف انتخابي مع الرئيس رجب طيب أردوغان. واعتبر الخبراء حينها أن أسوأ ما يمكن أن تواجهه الدولة التركية هو نظام قائم على مزيج من الإسلام السياسي والقوميين المتشددين. ووصف ياوز بيدرا رئيس تحرير موقع أحوال تركية، الوضع بأنه “كابوس”. ووفر التحالف لأردوغان كل ما يأمل في حدوثه. تم انتخابه كأول رئيس تنفيذي في الجولة الأولى بنسبة 52.6 بالمئة من الأصوات، على الرغم من أن حزبه حصل على 42.6 بالمئة، أي أقل بـ10 نقاط من نسبة نجاحه. ورطة أردوغانورطة أردوغان كما حقق حزب الحركة القومية أداء مفاجئا في الانتخابات البرلمانية بنسبة تصويت بلغت 11 بالمئة، على الرغم من التقديرات بأنه سيظل أقل من الحد الأدنى للقبول بالانتخابات البالغ 10 بالمئة. وأظهرت الدراسات أن البعض من ناخبي حزب العدالة والتنمية الذين لم يكونوا راضين عن السياسات الحكومية قرروا التصويت لصالح حزب الحركة القومية، حيث اعتبروه ملاذا آمنا، لأنهم لم يتمكنوا من التصويت لأحزاب المعارضة الأخرى. ويرى خبراء أتراك أن زعيم القوميين بإعلانه عن فك التحالف مع العدالة والتنمية أعاد للحزب البعض من “كرامته” بعد أن مضى بهجلي في تحالفه إلى أقصى مدى ممكن وبدا وكأن الحزب تحول إلى مجرد رجع صدى لمواقف وقرارات حزب العدالة والتنمية وللرئيس أردوغان شخصيا. وعكس ذلك استياء بين صفوف القوميين الأتراك من هيمنة شخصية أردوغان على القرار، عبر إظهار تجاهل تام لحزب الحركة القومية ورجاله. وذاق الحزب من نفس الكأس التي سبقه إليها من قبل رفاق أردوغان المقربين من الرئيس التركي السابق عبدالله غول ورئيس الوزراء ووزير الخارجية السابق أحمد داود أوغلو. وكان تخلي الحزب عن أي مرشح له في الانتخابات الرئاسية الماضية وترشيح أردوغان نقطة تحول في تاريخ الحزب. فخلال الانتخابات الرئاسية لعام 2014، وهي الأولى التي يقررها التصويت الشعبي، عمل حزب الحركة القومية بشكل حاسم مع حزب المعارضة الرئيسية لطرح مرشح مشترك. وفي تلك الحملة الانتخابية، كما في الانتخابات المحلية في وقت سابق من عام 2014 وفي الانتخابات العامة سنة 2015، تبنى حزب الحركة القومية خطابا سياسيا قاسيا في معارضته لحزب العدالة والتنمية، لكن خطابهم وموقفهم منذ استفتاء أبريل 2017 حول التعديلات الدستورية كان مختلفا تماما. الخلافات أكثر من التفاهمات اجتمع الطرفان أساسا على خلفية الموقف من الأكراد الذين حققوا انتصارا انتخابيا مقلقا في انتخابات 2015. وكان للحملة التي شنها أردوغان ضد الأكراد في سوريا تأثيرها عند القوميين المتشددين، إلا أن نقاط الخلاف والتحالف أكبر من أن تبقي التحالف صامدا فقط بسبب نقطة الأكراد، خاصة وأن أردوغان عرض في السابق التحاور معهم. وتنامت الخلافات خلال الأسابيع الماضية، عندما أشار بهجلي إلى نيته عرض قانون عن العفو إلى التصويت. ومن شأن هذا القانون أن يطلق سراح بعض كبار القوميين المتطرفين الذين يُنظر إليهم على أنهم “أبطال” بين الأوساط القومية، لكن قوبل الأمر برفض أردوغان. ورأى بهجلي أنه “لا يمكن لأي تحالف أن يبقى قائما إذا دفع أحد الطرفين الآخر وأجبره على التراجع وتجاهله تماما”. وهذا الخلاف ليس سوى تفصيل في قائمة طويلة ترتبط أساسا بالتوجهات الأيديولوجية لكل طرف. ويشير المحلل السياسي التركي سيركان ديميرتاس إلى أنه من الضروري الالتفات إلى المناقشات الأخيرة التي عقدت بين حزب العدالة والتنمية ومسؤولي حزب الحركة القومية، الذين لديهم وجهات نظرهم حول ما تعنيه القومية. ومن بين وجهات النظر هذه تلك التي تتعلق بالنقاش القانوني الجاري بخصوص ما إذا كان القسم الوطني سيُقرأ في المدارس كل صباح. سيركان ديميرتاس: الوضع السياسي الجديد يقود تركيا نحو طريق أكثر تعقيداسيركان ديميرتاس: الوضع السياسي الجديد يقود تركيا نحو طريق أكثر تعقيدا ويقول ديميرتاس إن بهجيلي غضب من كبار مسؤولي حزب العدالة والتنمية الذين انتقدوا بشدة قرار المحكمة الذي يعيد قراءة القسم الوطني في المدارس. وفي قضية أخرى أعرب كبار المسؤولين في حزب الحركة القومية عن شكوكهم بشأن زيارة أردوغان إلى ديار بكر بما قد يشير إلى محاولة جديدة للتفاوض على السلام مع الأكراد. وعلى صعيد السياسة الخارجية، تظهر الخلافات عميقة خصوصا في ما يتعلق بالتقارب التركي الروسي، حيث مازال القوميون ينظرون إلى الروس انطلاقا من انطباعات تاريخية قديمة. وحسب هاليل كارافالي “المواءمة مع روسيا تتعارض ببساطة مع فكر الدولة التركية، حيث تمارس الشخصيات الرئيسية بين نخبة أنقرة، التي اعتمد عليها أردوغان في ممارسة نفوذه (القوميون)، تقليدا سياسيا معاديا لموسكو”. وينظر القوميون الأتراك إلى روسيا على أنها العدو اللدود للإمبراطورية العثمانية وأنها تسيطر على الشعوب التركية. ووفق المحلل السياسي هاليل كارافالي، في المقابل، يؤيد القوميون بشدة التحالف مع الولايات المتحدة، و”كانوا سيبقون هكذا لو لم تدعم الولايات المتحدة الأكراد”. وخلافا للآراء التي انتقدت خضوع بهجلي لأردوغان، يرى هاليل كارافالي، باحث في معهد آسيا الوسطى-القوقاز، أن بهجلي عرف كيف يكون مهما جدا بالنسبة لأردوغان، وبالتالي يحرك اللعبة وفق خياراته، مشيرا إلى أن حزب الحركة القومية اختار عدم الدخول إلى الحكومة بشكل علني، ولكنه يتمتع بسلطة واسعة بشكل غير مباشر، حيث يحتل الآلاف من المناصب في الحكومة. وليست هذه المرة الأولى التي يستخدم فيها حزب الحركة القومية نفوذه لتحريك الأمور خلف الكواليس من أجل حماية الدولة التركية. فخلال السبعينات، تم حشد كوادر حزب الحركة القومية لسحق اليسار الديمقراطي الذي كان في ذلك الوقت يشهد صعودا مقلقا. وبدعم من الحكومة والجيش، حاصر مسلحو حزب الحركة القومية الحكومة الديمقراطية الاجتماعية، وقتلوا الآلاف من اليساريين، ومهدوا الطريق أمام الانقلاب العسكري اليميني في عام 1980. ويعتبر كارافالي أنه بعد أن تم تطهير مؤيدي فتح الله غولن من الحكومة بعد محاولة الانقلاب الفاشل، أصبح حزب الحركة القومية ومؤيدوه على القمة. ويقدم كارافالي كمثال تعيين خلوصي أكار، وهو رئيس سابق لهيئة الأركان العامة، والمعروف بأنه قومي تركي في هيكل حزب الحركة القومية، وهو لا يثق بالولايات المتحدة، لكنه أيضا لا يحب روسيا. وشدد أكار في بيانه الأول كوزير للدفاع على أهمية حشد “الموارد القومية” لضمان استقلال تركيا وأمنها. ويعتبر هاليل كارافالي أن حزب الحركة القومية طوال الفترة الماضية، وحتى بتحالفه مع العدالة والتنمية، كان يتولى مهمة استعادة سلطة الدولة، لكن، يجادل الخبراء بأن هذا الأمر أصبح صعبا في ظل نظام الرجل الواحد، ونجاح أردوغان في الإمساك بمختلف مقاليد الدولة بعد التعديلات الدستورية والدور الذي لعبه القوميون في هذا التحول الذي تشهده الدولة التركية. ويقول سيركان ديميرتاس “هذا الوضع السياسي مصحوب بالمزيد من تدهور الأوضاع الاقتصادية قبل الاستطلاعات المحلية التي ستُجرى في 30 مارس 2019، سيكون ذلك مؤشرا على اتجاه الدولة نحو طريق أكثر تعقيدا”.
مشاركة :