جني القطن بمصر.. موسم شقاء الأطفال الفقراء

  • 10/26/2018
  • 00:00
  • 3
  • 0
  • 0
news-picture

طموح الأطفال الفقراء وحلمهم الدائم هو الخروج من دائرة الفقر الذي لا يكون إلا بالمدرسة والتعلم واللعب مع الأقران، إلا أنّ العوز الأسري يشدهم إلى حلقة الفقر ويدفعهم إلى الانقطاع عن الدراسة والعمل في مهن شاقة وهامشية، للمساعدة في مصاريف الأسرة التي تكون عادة وفيرة العدد، هذا هو قدر الأطفال الفقراء في الريف المصري. البحيرة (مصر) – وسط أشجار القطن طويل التيلة، في أحد حقول محافظة البحيرة بدلتا مصر، يكاد لا يظهر الطفل محمود عيسى، ذو القوام القصير، حيث يتغيب عن المدرسة أكثر ما يحضر، ليشارك في جني المحصول مقابل العشرات من الجنيهات يوميا، لمساعدة أسرته في توفير نفقات تعليمه، وجمع أكبر قدر من المال خلال موسم الحصاد. تحوّلت أكثر الحقول خلال موسم جني المحصول، الذي يبدأ مع بداية أكتوبر ويستمر حتى نهايته، إلى صورة مشابهة لطوابير المدارس، من كثرة الاستعانة بالطلاب في الحصاد، حتى أصبحوا بمثابة المنقذ للفلاحين بعدما اتجه الشباب للعمل في مجالات وتخصصات بعيدة عن الزراعة والهجرة إلى المدن. يصطف محمود وسط مجموعة من رفاقه الصغار، الذين تتراوح أعمارهم بين 10 إلى 14 سنة، وينتشرون في الحقل، تحت أشعة الشمس الحارقة، لا تسمع آذانهم سوى عبارات التأنيب والصراخ من صاحب الأرض، إذا تراخوا في جني المحصول، أو تحدثوا مع بعضهم لتسلية أنفسهم والتخفيف من آلامهم الجسدية. عمالة الأطفال تظل في صدارة الأسباب التي تفاقم أزمة التسرب التعليمي في مصر يخيّم الصمت على الأطفال طوال ساعات الجني، لا يستريحون إلا لتناول وجبة الغذاء لمدة 15 دقيقة، فلا مجال للتسامر، لأن ذلك من وجهة نظر الفلاح، ضياع للوقت والمال لأنهم لا ينجزون في ظل انخفاض سعر المحصول، وعزوف الحكومة عن شرائه، ما تسبّب في خسائر فادحة للمزارعين. يدفع الأطفال وحدهم فاتورة تخبّط الحالة المزاجية والنفسية لأصحاب الحقول، ويكونون الحلقة الأضعف في خلاف الحكومة مع الفلاحين على أسعار المحاصيل، ويخرجون شحنات غضبهم تجاه الصغار، ويتعاملون معهم بأنهم جزء أساسي من الخسائر التي يتعرضون لها. يقول عماد سيد أحمد، مالك أحد حقول القطن بمحافظة البحيرة لـ”العرب”، إن “أكثر المزارعين يتعاملون بامتعاض مع الأطفال لشعورهم بأنهم يتقاسمون معهم أرزاقهم، فهل يُعقل أن تصل أجرة طفل في اليوم الواحد لنحو 120 جنيها (نحو 7 دولارات)؟ نعم نتعامل معهم بقسوة بسبب حالتنا النفسية السيئة، لأن الحكومة رفضت شراء المحصول. يبدأ عمل الصغار في حقول القطن مع سطوع الشمس، ويتمّ نقلهم إلى المزارع بشكل جماعي في سيارات نقل مكشوفة، ويتكدّسون فوق بعضهم، وكثيرا ما يصاب البعض بنزلات شعبية وأمراض صدرية جرّاء التنقل بهذه الطريقة العشوائية. ينتهي العمل في الخامسة مساء، ويعود الصغار إلى ديارهم بذات الطريقة، وطوال فترة وجودهم في الحقول، يتمنى كل منهم أن تجري عقارب الساعة، ويختفي شعاع الشمس، كي يعود إلى منزله سريعا، للاستراحة والاستعداد مبكّرا لمعاناة اليوم التالي. يقول سعيد زكريا، طالب بالصف الخامس الابتدائي، إن “أكثر ما يؤلمه، تلك الإهانات التي يسمعها طوال اليوم إذا تأخر عن رفاقه في الحقل بضعة خطوات، لكنه مضطر للعمل وسط هذه الظروف، لتحسين مستوى معيشة أسرته، وتوفير نفقات تعليم أخواته البنات”. لا مجال للراحةلا مجال للراحة يتعمّد سعيد، الجلوس على قدميه مثل باقي رفاقه، لبضع دقائق على فترات متباعدة، للإيحاء بأنه يجني القطن من ناحية الجذور، كي يستريح قليلا، والتخفي وسط الأوراق هربا من حرارة الشمس، لكنه سرعان ما يفزع من الصوت القادم ناحيته ويطالبه بالوقوف سريعا.. هنا يكون مالك الحقل، أو “مقاول الأنفار”، أي مستأجر عُمّال الجني من منازلهم. أمام الصراخ في وجهه، ينهض سعيد ويعيد استقامة جسده، ويسرع من حركة يديه الصغيرتين لقطف القطن لتجنّب العبارات المسيئة، وقد يضطر أن يميّل الشجرة من ارتفاع طولها للوصول إلى قمّتها، فهو قصير القامة، وأكثرهم من هذه الفئة، لصغر السن ونحافة الجسد. يقول سعيد لـ”العرب”، إنه ينتمي إلى أسرة بسيطة للغاية، مكوّنة من أربعة أبناء، ثلاثة منهم تخطّوا سن البلوغ وقرروا السفر إلى محافظة الإسكندرية على البحر المتوسط، هربا من العمل في الزراعة، وبقيت وحدي مع والدي الذي كاد يخرجني من المدرسة، لولا تدخلات أمّي، وأعمل وقت حصاد القطن، لأنفق على نفسي وأتعلم وأغيّر مسار حياتي. جميع الأطفال الذين يعملون في مهنة جني القطن، من أبناء البسطاء، الذين يُرغمون أبناءهم على التسرب الجزئي من المدرسة، للاستفادة من العائد المادي، وبعض الأسر تهدد صغارها بالحرمان من المصروف وعدم الإنفاق عليهم، حال رفضهم العمل بعض أيام الأسبوع. لا يعرف المزارعون ولا الأطفال ولا المستأجرون بالحقول، أي شيء عن قانون الطفل، وحقوق الصغار على الأسرة والمجتمع، والعقوبات التي يتم فرضها على كل صاحب عمل يقوم بتشغيل أصحاب الفئات العمرية الأقل من 17 عاما. تقدّر دراسات إحصائية لمركز الطفل العامل بمصر، حجم عمالة الأطفال بنحو ثلاثة ملايين، يمثلون ثلث الشريحة العمرية الموجودة بالتعليم الأساسي، ويقضي غالبية هؤلاء أكثر من 10 ساعات فى العمل خارج منازلهم ما يمثل انتهاكا صارخا لقانون العمل لعدم وجود رقابة على أصحاب الأعمال وسوق العمل. لا يهمّ والد الطفل، كيف يتعامل ابنه داخل الحقل، وبأي طريقة وأسلوب مرّ اليوم عليه، وما يعنيه أن يدخل عليه مع غروب الشمس وفي يديه “اليومية”، أي ما تحصّل عليه من مبلغ مال، لأن أكثر الآباء في الريف يتمسّكون بتحمّل صغارهم المسؤولية مبكّرا، حتى يكبروا رجالا. ويقول محمود لـ”العرب”، إنه اضطُر للعمل في جني القطن، لأن والده رفض حصوله على درس خصوصي مثل زملائه لعدم قدرته على توفير المقابل المادي بنهاية كل شهر، ما دفعه لتحمل المشقة وسط الحقل طوال 11 ساعة متواصلة، لاستكمال تعليمه. ولا يريد هذا الصغير، أن يلقى مصير والده الأمّي، بعدما حُرم من التعليم بسبب فقر أسرته، ويدرك أن خروجه للعمل بضعة أيام، والهروب من المدرسة، مقابل الحصول على تكاليف دراسته، كفيل بتجنيب نفسه ذات المصير، والتمسّك بتحقيق حلم لقب الطبيب. تمتاز أسعار الدراسة في المناطق الريفية بأنها متدنية للغاية، بالمقارنة مع المدن والحضر، الأمر الذي يشكّل حافزا للطلاب على إمكانية الإنفاق على أنفسهم بالعمل لأيام محدودة في الزراعات خلال الفترات الموسمية لجني المحاصيل التي تحتاج لعمالة بسيطة. تظل عمالة الأطفال في صدارة الأسباب التي تفاقم أزمة التسرب التعليمي في مصر، وليس بالضرورة أن يكون سبب عملهم في سن صغيرة مساعدة أسرهم، وقد يرجع ذلك لعوامل أخرى، مثل اقتناء أشياء يعجز آباؤهم عن توفيرها تكلفتها، مثل شراء ملابس ومستلزمات والخروج للتنزه. يجيز قانون الطفل المصري، “الترخيص بتشغيل الأطفال من 12-14 سنة في أعمال موسمية مأمونة المخاطر ولا تضرّ بصحتهم أو نموّهم أو تخلّ بمواظبتهم علي الدراسة، شرط موافقة المحافظ (الحاكم المحلي) ووزير التربية والتعليم”، حتى أصبحت هذه المادة ثغرة يتسلل منها الآباء وأصحاب الأعمال لتشغيل الأطفال تحت ذريعة تدريبهم لتعلّم مهنة. كان الاعتماد على الأطفال في حصاد القطن، في نطاق ضيق خلال السنوات الماضية، حتى أصبح الأمر ظاهرة مستفحلة في المناطق الريفية، بعدما اتجه أكثر الشباب للعمل في مدن ومناطق ساحلية وسياحية والسفر خارج البلاد وافتتاح مشروعات بعيدا عن العمل في الحقول. يقرّ سامي خليفة، شاب يستأجر الأطفال للعمل في الحقول، بأن الصغار في الأرياف ضحية لترف الشباب والفتيات والعزوف عن العمل في الزراعة، وأصبح من النادر وجود شباب يقبلون جني القطن، بحجة أن ذلك “ضد التمدن”، فأصبح الأطفال، هم البديل الوحيد. ويشير لـ”العرب”، إلى أن انتشار عمالة الأطفال بالحصاد، يرتبط بعدم قدرة أكثر الآباء على السيطرة على أبنائهم الكبار، ويتمّ اللجوء إلى الحلقة الأضعف داخل الأسرة، ويجري الاتفاق مع الأب على استئجار ابنه لعدة أيام، لأنه يعتبر المقابل المادي أهم من الذهاب إلى المدرسة. ساعات طويلة من العمل

مشاركة :